القانون  
   القانون   
   ( 7 من 70 )  
  السابق   الفهرس   التالي  
  
 

 الفصل الرابع أحكام الفصول

وتعابيرها كل فصل يوافق من به مزاج صحي مناسب له ويخالف من به سوء مزاج غير مناسب له إلا إذا عرض خروج عن الاعتدال جداً فيخالف المناسب وغير المناسب بما يضعف من القوة وأيضاً فإن كل فصل يوافق المزاج العرضي المضاد له وإذا خرج فصلان عن طبعهما وكان مع ذلك خروجهما متضاداً ثم لم يقع إفراط متماد مثل أن يكون الشتاء كان جنوبياً فورد عليه ربيع شمالي كان لحوق الثاني بالأول موافقاً للأبدان معدلاً لها فإن الربيع يتدارك جناية الشتاء‏.‏

وكذلك إن كان الشتاء يابساً جداً والربيع رطباً جداً فإن الربيع يعدل بيبس الشتاء‏.‏

وما لم تُفْرِط الرطوبة ولم يطل الزمان لم يتغيّر فعله عن الإعتدال إلى الترطيب الضار‏.‏

تغيّر الزمان في فصل واحد أقل جلباً للوباء من تغيره في فصول كثيرة تغيّراً جالباً للوباء ليس تغير امتداد كالماء يجنيه التغيّر الأول على ما وصفنا‏.‏

وأولى أمزجة الهواء بأن يستحيل إلى العفونة هو مزاج الهواء الحار الرطب وأكثر ما تعرض تغيرات الهواء إنما هو في الأماكن المختلفة الأوضاع والغائرة ويقلّ في المستوية والعالية خصوصاً‏.‏

ويجب أن تكون الفصول ترد على واجباتها فيكون الصيف حاراً والشتاء بارداً وكذلك كل فصل فإن انخرق ذلك فكثيراً ما يكون سبباً لأمراض رديئة‏.‏

والسنة المستمرة الفصول على كيفية واحدة سنة رديئة مثل أن يكون جميع السنة رطباً أو يابساً أو حاراً أو بارداً فإن مثل هذه السنة تكون كثيرة الأمراض المناسبة ليكفيتها ثم تطول مددها فان الفصل الواحد يثير المرض اللائق به فكيف السنة مثل أن الفصل البارد إذا وجد بدناً بلغمياً حرك الصرع والفالج والسكتة والقوة والتشنُّج وما يشبه ذلك‏.‏

والفصل الحار إذا وجد بدناً صفراوياً أثار الجنون والحمّيات الحادة والأورام الحارة فكيف إذا استمرت السنة على طبع الفصل‏.‏

وإذا استعجل الشتاء استعجلت الأمراض الشتوية وإن استعجل الصيف استعجلت الأمراص الصيفية وتغيّرت الأمراض التي كانت قبلها بحكم الفصل وإذا طال فصل كثرت أمراضه وخصوصاً الصيف والخريف‏.‏

واعلم أن لانقلاب الفصول تأثيراً ليس هو بسبب الزمان لأنه زمان بل لما يتغيّر معه من الكيفية هو تأثير عظيم في تغيّر الأحوال وكذلك لو تغيّر الهواء في يوم واحد من الحر إلى برد لتغيّر مقتضاهما في الأبدان‏.‏

وأصح الزمان هو أن يكون الخريف مطيراً والشتاء معتدلاً ليس عادماً للبرد ولكن غير مفرط فيه بالقياس إلى البلد‏.‏

هان جاء الربيع مطيراً ولم يخل الصيف من مطر فهو أصحّ ما يكون‏.‏

 الفصل الخامس الهواء الجيد

الهواء الجيّد في الجوهر هو الهواء الذي ليس يخالطه من الأبخرة والأدخنة شيء غريب وهو مكشوف للسماء غير محقون للجدران والسقوف اللهم إلا في حال ما يصيب الهواء فساد عام فيكون المكشوف أقبل له من المغموم والمحجوب وفي غير ذلك فإن المكشوف أفضل‏.‏

فهذا الهواء الفاضل نقي صافٍ لا يخالطه بخار بطائح وآجام وخنادق وأرضين نزه ومباقل وخصوصاً ما يكون فيه مثل الكرنب والجرجير وأشجار خبيثة الجوهر مثل الجوز والشوحط والتين وأرياح عفنة ومع ذلك يكون بحيث لا يحتبس عنه الرياح الفاضلة لأنّ مَهابُّها أرض عالية ومستوية فليس ذلك الهواء هواء محتبساً في وهدة يسخن مع طلوع الشمس ويبرد مع غروبها بسرعة ولا أيضاً محقوناً في جدران حديثة العهد بالصهاريج ونحوها لم تجف بعد تمام جفافها ولا عاصياً على النفس كأنما يقبض على الحلق وقد علمت أن تغيرات الهواء منها طبيعية ومنها مضادة للطبيعة ومنها ما ليس بطبيعي ولا خارج عنه واعلم أن تغيرات الهواء التي ليست عن الطبيعة كانت مضادة أو غير مضادة قد تكون بأدوار وقد تكون غير حافظة للأدوار وأصح أحوال الفصول أن تكون على طبائعها فإن تغيرها يجلب أمراضاً‏.‏

 الفصل السادس كيفيات الأهوية ومقتضيات الفصول

الهواء الحار يحلل ويرخي فإن اعتدل حمر اللون بجذب الدم إلى خارج وإن أفرط صفره بتحليله لما يجذب وهو يكثر العرق ويقلل البول ويضعف الهضم ويعطش والهواء البارد يشد ويقوي على الهضم ويكثر البول لاحتقان الرطوبات وقلة تحلّلها بالعرق ونحوه ويقلل الثفل لانعصار عضل المقعدة ومساعدة المعي المستقيم لهيئتها فلا ينزل الثفل لفقدان مساعدة المجرى فيبقى كثيراً وتحلل مائيته إلى البول‏.‏

والهواء الرطب يليّن الجلد ويرطب البدن‏.‏

واليابس يفحل البدن يجفف الجلد‏.‏

والهواء الكدر يوحش النفس ويثير الأخلاط‏.‏

والهواء الكدر غير الهواء الغليظ فإن الهواء الغليظ هو المتشابه في خثورة جوهره والكدر هو المخالط لأجسام غليظة‏.‏

ويدل على الأمرين قلة ظهور الكواكب الصغار وقلة لمعان ما يلمع من الثوابت كالمرتعش‏.‏

وسببهما كثرة الأبخرة والأدخنة وقلة الرياح الفاضلة‏.‏

وسيعود لك الكلام في هذا المعنى ويتم إذا شرعنا في تغييرات الهواء الخارجة عن المجرى الطبيعي‏.‏

وكل فصل يرد على واجبه أحكام خاصة ويشترك آخر كل فصل وأول الفصل الذي يتلوه في أحكام الفصلين وأمراضهما‏.‏

والربيع إذا كان على مزاجه فهو أفضل فصل وهو مناسب لمزاج الروح والدم وهو مع اعتداله الذي ذكرناه يميل عن قرب إلى حرارة لطيفة سمائية ورطوبة طبيعية وهو يحمر اللون لأنه يجذب الدم باعتدال ولم يبلغ أن يحلله تحليل الصيف الصائف‏.‏

والربيع تهيج فيه الأمراض المزمنة لأنه يجري الأخلاط الراكدة ويسيلها ولذلك السبب تهيج فيه ماليخوليا أصحاب الماليخوليا ومن كثرت أخلاطه في الشتاء لنهمه وقلة رياضته استعد في الربيع للأمراض التي تهيج من تلك المواد بتحليل الربيع لها وإذا طال الربيع واعتداله قلت الأمراض الصيفية‏.‏

وأمراض الربيع اختلاف الدم والرعاف وتهيج الماليخوليا التي في طبع المرة والأورام والدماميل والخوانيق وتكون قتالة وسائر الخراجات ويكثر فيه انصداع العروق ونفث الدم والسعال وخصوصاً في الشتوي منه الذي يشبه الشتاء ويسوء أحوال من بهم هذه الأمراض وخصوصاً السد ولتحريكه في المبلغمين مواد البلغم تحدث فيه السكتة والفالج وأوجاع المفاصل وما يوقع فيها حركة من الحركات البدنية والنفسانية مفرطة وتناول المسخنات أيضاً فإنهما يعينان طبيعة الهواء ولا يُخَلص من أمراض الربيع شيء كالفصد والإستفراغ والتقليل من الطعام والتكثير من الشراب والكسر من قوة الشراب المسكر بمزجه‏.‏

والربيع موافق للصبيان ومن يقرب منهم‏.‏

وأما الشتاء فهو أجود للهضم لحصر البرد جوهر الحار الغريزي فيقوي ولا يتحلل ولقلة الفواكه واقتصار الناس على الأغذية الخفيفة وقلة حركاتهم فيه على الإمتلاء ولإيوائهم إلى المدافىء وهو أكثر الفصول للمدة السوداء لبرده وقصر نهاره مع طول ليله‏.‏

وأكثرها حقناً للمواد وأشدها إحواجاً إلى تناول المقطعات والملطفات والأمراض الشتوية أكثرها بلغمية‏.‏

ويكثر فيه البلغم حتى إن أكثر القيء فيه البلغم ولون الأورام يكون فيه إلى البياض على أكثر الأمر‏.‏

ويكثر فيه أمراض الزكام ويبتدىء الزكام مع اختلاف الهواء الخريفي ثم يتبعه ذات الجنب وذات الرئة والبحوحة وأوجاع الحلق ثم يحدث وجع الجنب نفسه والظهر وآفات العصب والصداع المزمن بل السكتة والصرع كل ذلك لإحتقان المواد البلغمية وتكثرها‏.‏

والمشايخ يتأذون بالشتاء وكذلك من يشبههم‏.‏

والمتوسطون ينتفعون به ويكثر الرسوب في البول شتاء بالقياس إلى الصيف ومقداره أيضاً يكون أكثر‏.‏

وأما الصيف فإنه يحلل الأخلاط ويضعف القوة والأفعال الطبيعية لسبب إفراط التحليل ويقل الدم فيه والبلغم ويكثر المرار الأصفر ثم في آخره المرار الأسود بسبب تحلل الرقيق واحتباس الغليظ واحتقانه‏.‏

وتجد المشايخ ومن يشبههم أقوياء في الصيف ويصفر اللون بما يحلل من الدم الذي يجذبه وتقصر فيه مدد الأمراض لأن القوة إن كانت قوية وجدت من الهواء معيناً على التحليل فأنضجت مادة العلة ودفعتها وإن كانت ضعيفة زادها الحر الهوائي ضعفاً بالإرخاء فسقت ومات صاحبها‏.‏

والصيف الحار اليابس سريعاً ما يفصل الأمراض والرطب مضاغ طويل مدد الأمراض ولذلك يؤول فيه أكثر القروح إلى الآكلة ويعرض فيه الاستسقاء وزلق الأمعاء وتلين الطبع ويعين في جميع ذلك كله كثرة إنحدار الرطوبات من فوق إلى أسفل وخصوصاً من الرأس‏.‏

وأما الأمراض القيظية فمثل حتى الغبّ والمطبقة والمحرقة وضمور البدن‏.‏

ومن الأوجاع أوجاع الأذن والرمد ويكثر فيه خاصة إذا كان عديم الريح الحمرة والبثور التي تناسبها وإذا كان الصيف ربيعياً كانت الحميات حسنة الحال غير ذات خشونة وحدة يابسة وكثر فيه العرق وكان متوقعاً في البحارين لمناسبة الحار الرطب لذلك فإن الحار يخلل والرطب يرخي ويوسع المسام‏.‏

وإن كان الصيف جنوبياً كثرت فيه الأوبئة وأمراض الجدري والحصبة‏.‏

وأما الصيف الشمالي فإنه منضج لكنه يكثر فيه أمراض العصر‏.‏

وأمراض العصر أمراض تحدث من سيلان المواد بالحرارة الباطنة أو الظاهرة إذا ضربتها برودة ظاهرة فعصرتها وهذه الأمراض كلها كالنوازل وما معها وإذا كان الصيف الشمالي يابساً انتفع به البلغميون والنساء وعرض لأصحاب الصفراء رمد يابس وحميات حارة مزمنة وعرض من احتراق الصفراء للإحتقان غلبة سوداء‏.‏

وأما الخريف فإنه كثير الأمراض لكثرة تردد الناس فيه في شمس حارة ثم رواحهم إلى برد ولكثرة الفواكه وفساد الأخلاط بها ولانحلال القوة في الصيف‏.‏

والأخلاط تفسد في الخريف بسبب المأكولات الرديئة وبسبب تخلل اللطيف وبقاء الكثيف وإحتراقه‏.‏

وكلما أثار فيها خلط من تثوير الطبيعة للدفع والتحليل رده البرد إلى الحقن ويقلّ الدم في الخريف جداً بل هو مضاد للدم في مزاجه فلا يعين على توليده وقد تقدّم تحليل الصيف الدم وتقليله منه‏.‏

ويكثر فيه من الأخلاط المرار الأصفر بقية عن الصيف والأسود لترمد الأخلاط في الصيف فلذلك تكثر فيه السوداء لأن الصيف يرمد والخريف يبرد‏.‏

وأول الخريف موافق للمشايخ موافقة ما وآخره يضرهم وأمراض الخريف هي الجرب المتقشر والقوابي والسرطانات وأوجاع المفاصل والحيّات المختلطة وحميات الربع لكثرة السوداء لما أوضحناه من علة ولذلك يعظم فيه الطحال ويعرض فيه تقطير البول لما يعرض للمثانة من اختلاف المزاج في الحرّ والبرد ويعرض أيضاً عسر البول وهو أكثر عروضاً من تقطير البول ويعرض فيه زلق الأمعاء وذلك لدفع البرد فيه ما رق من الأخلاط إلى باطن البدن ويعرض فيه عرق النسا أيضاً وتكون فيه الذبحة لذاعة مرارية وفي الربيع بلغمية لأن مبدأ كل منهما من الخلط الذي يثيره الفصل الذي قبله ويكثر فيه إيلاوس اليابس وقد يقع فيه السكتة وأمراض السكتة وأمراض الرئة وأوجاع الظهر والفخذين بسبب حركة الفصول في الصيف ثم انحصارها فيه‏.‏

ويكثر فيه الديدان في البطن لضعف القوة عن الهضم والدفع ويكثر خصوصاً في اليابس منه الجدري وخصوصاً إذا سبقه صيف حار ويكثر فيه الجنون أيضاً لرداءة الأخلاط المرارية ومخالطة السوداء لها‏.‏

والخريف أضر الفصول بأصحاب قروح الرئة الذين هم أصحاب السل وهو يكشف المشكل في حاله إذا كان ابتدأ ولم يستبن آياته وهو من أضر الفصول بأصحاب الدقّ المفرد أيضا بسبب تجفيفه‏.‏

والخريف كالكافل عن الصيف بقايا أمراضه وأجود الخريف أرطبه والمطير منه واليابس منه أردؤه‏.‏

أحكام تركيب السنة إذا ورد ربيع شمالي على شتاء جنوبي ثم تبعه صيف ومدّ وكثرت المياه وحفظ الربيع المواد إلى الصيفّ كثر الموتان في الخريف في الغلمان وكثر السحج وقروح الأمعاء والغب الغير الخالصة الطويلة‏.‏

فإن كان الشتاء شديد الرطوبة أسقطت اللواتي تتربصن وضعهن ربيعاً بأدنى سبب‏.‏

وإن ولدن أضعفن وأمتن أو أسقمن‏.‏

ويكثر بالناس الرمد واختلاف الدم والنوازل تكثر حينئذ وخصوصاً بالشيوخ وينزل في أعصابهم فربما ماتوا منها فجأة لهجومها على مسالك الروح دفعة مع كثرة فإن كان الربيع مطيراً جنوبياً وقد ورد على شتاء شمالي كثر في الصيف الحميات الحارة والرمد ولين الطبيعة واختلاف الدم وأكثر ذلك كله من النوازل واندفاع البلغم المجتمع شتاء إلى التجاويف الباطنة لما حرّكه الحر وخصوصاً لأصحاب الأمزجة الرطبة مثل النساء ويكثر العفن وحمياته فإن حدث في صيقهم - وقت طلوع الشعرى - مطر وهبت شمال رجي خير وتحللت الأمراض‏.‏

وأضر ما يكون هذا الفصل إنما هو بالنساء والصبيان ومن ينجو منهم يقع إلى الربع لإحتراق الأخلاط وترمدها وإلى الاستسقاء بعد الربع بسبب الربع وأوجاع الطحال وضعف الكبد لذلك وإذا ورد على صيف يابس شمالي خريف مطير جنوبي إستعدت الأبدان لأن تصدع في الشتاء وتسعل وتبح حلوقها وتسل لأّنها يعرض لها كثيراً أن تزكم ولذلك إذا ورد على صيف يابس جنوبي خريف مطير شمالي كثر أيضاً في الشتاء الصداع ثم النزلة والسعال والبحوحة‏.‏

وإن ورد على صيف جنوبي خريف شمالي كثرت فيه أمراض العصر والحقن‏.‏

وإذا تطابق الصيف والخريف في كونهما جنوبيين رطبين كثرت الرطوبات‏.‏

فإذا جاء الشتاء جاءت أمراض العصر المذكورة‏.‏

ولا يبعد أن يؤدي الإحتقان وارتكام المواد لكثرتها وفقدان المنافس إلى أمراض عفنية‏.‏

ولم يخل الشتاء عن أن يكون ممرضاً لمصادفته مواد رديئة محتقنة كثيرة‏.‏

وإذا كانا معاً يابسين شماليين انتفع من يشكو الرطوبة والنسا‏.‏

وغيرهم يعرض له رمد يابس ونزلة مزمنة وحميات حارة وماليخوليا‏.‏

ثم اعلم أن الشتاء البارد المطير يحدث حرقة البول وإذا اشتدت حرارة الصيف ويبوسته حدثت خوانيق قتالة وغير قتالة ومنفجرة وغير منفجرة‏.‏

والمنفجرة تكون داخلاً وخارجاً وحدث عسر بول وحصبة وحميقاً وجمري سليمات ورمد وفساد دم وكرب واحتباس طمث ونفث‏.‏

والشتاء اليابس - إذا كان ربيعه يابساً - فهو رديء‏.‏

والوباء يفسد الأشجار والنبات

 الفصل الثامن تأثير التغيّرات الهوائية

التي ليست بمضادة للمجرى الطبيعي جداً‏.‏

ويجب أن نستكمل الآن القول في سائر التغييرات الغير الطبيعية للهواء ولا المضادة للطبيعية التي نعرض بحسب أمور سماوية وأمور أرضية فقد أومأنا إلى كثير منها في ذكر الفصول فأما التابعة للأمور السماوية فمثل ما يعرض بسبب الكواكب فإنها تارة يجتمع كثير من الدراري منها في حيز واحد ويجتمع مع الشمس فيوجب ذلك إفراط التسخين فيما يسامته من الرؤوس أو يقرب منه وتارة يتباعد عن سمت الرؤوس بعداً كثيراً فينقص من التسخين وليس تأثير المسامتة في التسخين كتأثير دوام المسامتة أو المقاربة‏.‏

وأما الأمور الأرضية فبعضها بسبب عروض البلاد وبعضها بسبب ارتافاع بقعة البلاد وانخفاضها وبعضها بسبب الجبال وبعضها بسبب البحار وبعضها بسبب الرياح وبعضها بسبب التربة‏.‏

وأما الكائن بسبب العروض فإن كل بلد يقارب مدار رأس السرطان في الشمال أو مدار رأس الجدي في الجنوب فهو أسخن صيفاً من الذي يبعد عنه إلى خط الاستواء وإلى الشمال‏.‏

ويجب أن يصدق قول من يرى أن البقعة التي تحت دائرة معدل النهار قريبة إلى الاعتدال وذلك أن السبب السماوي المسخن هناك هو سبب واحد هو مسامتة الشمس للرأس وهذه المسامتة وحدها لا تؤثر كثير أثر بل إنما تؤثر مداومة المسامتة‏.‏

ولهذا ما يكون الحرّ بعد الصلاة الوسطى أشد منه في وقت استواء النهار‏.‏

ولهذا ما يكون الحر والشمس في آخر السرطان وأوائل الأسد أشد منه إذا كانت الشمس في غاية الميل‏.‏

ولهذا تكون الشمس إذا انصرفت عن رأس السرطان إلى حد ما هو دونه في الميل أشد تسخيناً منها إذا كانت في مثل ذلك الحد من الميل ولم يبلغ بعد رأس السرطان والبقعة المسامتة لخط الاستواء إنما تسامت فيها الشمس الرأس أياماً قليلة ثم تتباعد بسرعة لأن تزايد أجزاء الميل عند العقدتين أعظم كثيراً من تزايدها عند المنقلبين بل ربما لم يؤثر عند المنقلبين حركة أيام ثلاثة وأربعة وأكثر أثراً محسوساً ثم إن الشمس تبقى هناك في حين واحد متقارب مدة مديدة فيمعن في الإسخان فيجب أن يعتقد من هذا أن البلاد التي عروضها متقاربة للميل كله هي أسخن البلاد وبعدها ما يكون بعده عنه في الجانبين القطبيين مقارباً لخمس عشرة درجة ولا يكون الحرّ في خط الاستواء بذلك المفرط الذي يوجبه المسامتة في قرب مدارس رأس السرطان في المعمورة لكن البرد في البلاد المتباعدة عن هذا المدار إلى الشمالي أكثر‏.‏

فهذا ما يوجبه اعتبار عروض المساكن على أنها في سائر الأحوال متشابهة‏.‏

وأما الكائن بحسب وضع البلد في نجد من الأرض أو غور فإن الموضوع في الغور أسخن أبداً والمرتفع العالي مكانه أبرد أبداً فإن ما يقرب من الأرض من الجو الذي نحن فيه أسخن لاشتداد شعاع الشمس قرب الأرض وما يبعد منه إلى حدّ هو أبرد‏.‏

والسبب فيه في الجزء الطبيعي من الحكمة وإذا كان الغور مع ذلك كالهوة كان أشد حصراً للشعاع وأسخن‏.‏

وأما الكائن بسبب الجبال فما كان الجبل فيه بمعنى المستقر فهو داخل في القسم الذي بيناه وما كان الجبل فيه بمعنى المجاورة فهو الذي نريد أن نتكلم الآن فيه فنقول‏:‏ إن الجبل يؤثر في الجو على وجهين‏:‏ أحدهما من جهة رده على البلد شعاع الشمس أو ستره إياه دونه والآخر من جهة منعه الريح أو معاونته لهبوبها أما الوؤل فمثل أن يكون في البلاد حتى في الشماليات منها جبل مما يلي الشمال من البلد فتشرق عليه الشمس في مدارها وينعكس تسخينه إلى البلد فيسخنه‏.‏

وإن كان شمالياً وكذلك إن كانت الجبال من جهة المغرب فانكشف المشرق‏.‏

وإن كان من جهة المشرق كان دون ذلك في هذا المعنى لأن الشمس إذا زالت فأشرقت على ذلك الجبل فإنها كل ساعة تتباعد عنه فينقص من كيفية الشعاع المشرق منها عليه ولا كذلك إذا كان الجبل مغربياً والشمس تقرب منه كل ساعة‏.‏

وأما من جهة منع الريح فأن يكون الجبل يصد عن البلد مهب الشمال المبرد أو يكبس إليه مهب الجنوبي المسخن أو يكون البلد موضوعاً بين صدفي جبلين منكشفاً لوجه ريح فيكون هبوب تلك الريح هناك أشد منه في بلد مصحر لأن الهواء من شأنه إذا انجذب في مسلك ضيق أن يستمر به الانجذاب فلا يهدأ وكذلك الماء وغيره وعلته معروفة في الطبيعيات‏.‏

وأعدل البلاد من جهة الجبال وسترها والانكشاف عنها أن تكون مكشوفة للمشرق والشمال مستورة نحو المغرب والجنوب‏.‏

وأما البحار فإنها توجب زيادة ترطيب للبلاد المجاورة لها جملة‏.‏

فإن كانت البحار في الجهات التي تلي الشمال كان ذلك معيناَ على تبريدها بترقرق ريح الشمال على وجه الماء الذي هو بطبعه بارد‏.‏

وإن كان مما يلي الجنوب أوجب زيادة في غلظ الجنوب وخصوصاً إن لم تجد منفذاً لقيام جبل في الوجه‏.‏

وإذا كان في ناحية المشرق كان ترطيبه للجو أكثر منه إذا كان في ناحية المغرب إذ الشمس تلح عليه بالتحليل المتزايد مع تقارب الشمس ولا تلح على المغربية‏.‏

وبالجملة فإن مجاورة البحر توجب ترطيب الهواء ثم إن كثرت الرياح وتسربت ولم تعارض بالجبال كان الهواء أسلم من العفونة‏.‏

فإن كانت الرياح لا تتمكن من الهبوب كانت مستعدة للتعقن وتعفين الأخلاط‏.‏

وأوفق الرياح لهذا المعنى هي الشمالية ثم المشرقية والمغربية‏.‏

وأضرها الجنوبية‏.‏

وأما الكائن بسبب الرياح فالقول فيها على وجهين‏:‏ قول كلّي مطلق وقول بحسب بلد بلد وما يخصه‏.‏

فأما القول الكلي فإن الجنوبية في أكثر البلاد حارة رطبة‏.‏

أما الحرارة فلأنها تأتينا من الجهة المتسخنة بمقاربة الشمس وأما الرطوبة فلأن البحار أكثرها جنوبية عنا‏.‏

ومع أنها جنوبية فإن الشمس تفعل فيها بقوة وتبخر عنها أبخرة تخالط الرياح فلذلك صارت الرياح الجنوبية مرخية‏.‏

وأما الشمالية فإنها باردة لأنها تجتاز على جبال وبلاد باردة كثيرة الثلوج ويابسة لأنها لا يصحبها أبخرة كثيرة لأن التحلل في جهة الشمال أقل ولا تجتاز على مياه سائلة بحرية بل إما أن تجتاز في الأكثر على مياه جوامد أو على البراري‏.‏

والمشرقية معتدلة في الحر والبرد لكنها أيبس من المغربية إذ شمال المشرق أقل بخاراً من شمال المغرب‏.‏

ونحن شماليون لا محالة والمغربية أرطب يسيراً لأنها تجتاز على بحار ولأن الشمس تخالفها بحركتها فإن كل واحد من الشمس ومنها كالمضاد للآخر في حركته فلا تحللها الشمس تحليلها للرياح المشرقية وخصوصاً وأكثر مهب الرياح المشرقيات عند ابتداء النهار وأكثر مهب المغربيات عند آخر النهار‏.‏

ولذلك كانت المغربيات أقل حرارة من المشرقيات وأميل إلى البرد والمشرقيات أكثر حراً وإن كانا كلاهما بالقياس إلى الرياح الجنوبية والشمالية معتدلين‏.‏

وقد تتغير أحكام الرياح في البلاد بحسب أسباب أخرى‏.‏

فقد يتفق في بعض البلاد أن تكون الرياح الجنوبية فيها أبرد إذا كان بقربها جبال ثالجة جنوبية فتستحيل الريح الجنوبية بمرورها عليها إلى البلاد وربما كانت الشمالية أسخن من الجنوبية إذا كان مجتازها ببراري محترقة‏.‏

وأما النسائم فهي إما رياح مجتازة ببراري حارة جداً وإما رياح من جنس الأدخنة التي تفعل في الجو علامات هائلة شبيهة بالنار فإنها إن كانت ثقيلة يعرض لها هناك اشتغال أو التهاب ففارقها اللطيف نزل الثقيل وبه بقية التهاب ونارية فإن جميع الرياح القوية على ما يراه علماء القدماء إنما يبتدىء من فوق وإن كان مبدأ موادها من أسفل لكن مبدأ حركاتها وهبوبها وعصوفها من فوق‏.‏

وهذا إما أن يكون حكماً عاماً أو أكثرياً‏.‏

وتحقيق هذا إلى الطبيعي من الفلسفة‏.‏

ونحن نذكر في المساكن فضلاً في هذا‏.‏

وأما اختلاف البلاد بالتربة فلأن بعضها طينة حرة وبعضها صخري وبعضها رملي وبعضها حمئي أو سنجي ومنها ما يغلب على تربته قوة مدنية يؤثر جميع ذلك في هوائه ومائه‏.‏

 الفصل التاسع التغيرات الهوائية الرديئة

المضادة للمجرى الطبيعي وأما التغيرات الخارجة عن الطبيعة فإما لاستحالة في جوهر الهواء وإما لاستحالة في كيفياته‏.‏

أما الذي في جوهره فهو أن يستحيل جوهره إلى الرداءة لأن كيفية منه أفرطت في الاشتداد أو النقص وهذا هو الوباء وهو بعض تعفن يعرض في الهواء يشبه تعفن الماء المستنقع الآجن‏.‏

فإنا لسنا نعني بالهواء البسيط المجرد فان ذلك ليس هو الهواء الذي يحيط بنا فإن كان موجوداً صرفاً نعني أن يكون غيره‏.‏

وكل واحد من البسائط المجرّدة فإنه لا يعفن بل إما أن يستحيل في كيفيته وإما أن يستحيل في جوهره إلى البسبط الَاخر بأن يستحيل مثل الماء هواء بل إنما نعني بالهواء الجسم المبثوث في الجو وهو جسم ممتزج من الهواء الحقيقي ومن الأجزاء المائية البخارية ومن الأجزاء الأرضية المتصعدة في الدخان والغبار ومن أجزاء نارية‏.‏

وإنما نقول له كما نقول لماء البحر والبطائح ماء‏.‏

وإن لم يكن ماء صرفاً بسيطاً بل كان ممتزجاً من هواء وأرض ونار لكن الغالب فيه الماء فهذا الهواء قد يعفن ويستحيل جوهره إلى الرداءة كما أن مثل ماء البطائح قد يعفن فيستحيل جوهره إليها وأكثر ما يعرض الوباء وعفونة الهواء هو اَخر الصيف والخريف وسنذكر العوارض العارضة من الوباء في موضع آخر‏.‏

وأما الذي في كيفياته فهو أن يخرج في الحرّ أو البرد إلى كيفية غير محتملة حتى يفسد له الزرع والنسل وذلك إما باستحالة مجانسة كمعمعة القيظ إذا فسد أو استحالة مضادة كزمهرة البرد في الصيف لعرض عارض‏.‏

والهواء إذا تغيّر عرضت منه عوارض في الأبدان فإنه إذا تعفن عفن الأخلاط وابتدأ بتعفين الخلط المحصور في القلب لأنه أقرب إليه وصولاً منه إلى غيره‏.‏

وإن سخن شديداً أرخى المفاصل وحلل الرطوبات فزاد في العطش وحلل الروح فأسقط القوى ومنع الهضم بتحليل الحار الغريزي المستبطن الذي هو آلة للطبيعة وصفر اللون بتحليله الأخلاط الدموية المحمرة اللون وتغليبه المرة على سائر الأخلاط وسخن القلب سخونة غير غريزية وسيل الأخلاط وعفنها وميلها إلى التجاويف وإلى الأعضاء الضعيفة وليس بصالح للأبدان المحمودة بل ربما نفع المستسقين والمفلوجين وأصحاب الكزاز البارد والنزلة الباردة والتشنج الرطب واللقوة الرطبة‏.‏

وأما الهواء البارد فإنه يحصر الحار الغريزي داخلاً ما لم يفرط إفراطاً يتوغّل به إلى الباطن فإنّ ذلك مميت والهواء البارد الغير المفرط يمنع سيلان المواد ويحبسها لكنه يحدث النزلة ويضعف العصب ويضر بقصبة الرئة ضرراً شديداً وإذا لم يفرط شديداً قوى الهضم وقوى الأفعال الباطنة كلها وأثار الشهوة وبالجملة فإنه أوفق للأصحاء من الهواء المفرط الحر‏.‏

ومضاره هي من جهة الأفعال المتعلقة بالعصب وبسده المسام وبعصره حشو وخلل العظام‏.‏

والهواء الرطب صالح موافق للأمزجة أكثرها ويحسن اللون والجلد ويلينه ويبقي المسام منفتحة إلا أنه يهيىء للعفونة واليابس بالضد‏.‏

 الفصل العاشر

قد ذكرنا أحوال الرياح في باب تغيرات الهواء ذكراً ما إلا أنا نريد أن نورد فيها قولاً جامعاً على ترتيب آخر ونبدأ بالشمال‏.‏

في الرياح الشمالية‏.‏

الشمال تقوي وتشد وتمنع السيلانات الظاهرة وتسد المسام وتقوي الهضم وتعقل البطن وتدرّ البول وتصحح الهواء العفن الوبائي وإذا تقدم الجنوب الشمال فتلاه الشمال حدث من الجنوب إسالة ومن الشمال عصر إلى الباطن وربما أقى إلى انفتاح إلى خارج ولذلك يكثر حينئذ سيلان المواد من الرأس وعلل الصدر والأمراض الشمالية وأوجاع العصب ومنها المثانة والرحم وعسر البول والسعال وأوجاع الأضلاع والجنب والصدر والاقشعرار‏.‏

في الرياح الجنوبية‏.‏

الجنوب مرخية للقوة مفتحة للمسام مثوّرة للاخلاط محرّكة لها إلى خارج مثقلة للحواس وهي مما يفسد القروح وينكس الأمراض ويضعف ويحدث على القروح والنقرس حكاكاً ويهيج الصداع‏.‏

ويجلب النوم ويورث الحميّات العفنة لكنها لا تخشن الحلق‏.‏

في الرياح المشرقية‏.‏

هذه الرياح إن جاءت في اَخر الليل وأول النهار تأتي من هواء قد تعدل بالشمس ولطف وقلّت رطوبته فهي أيبس وألطف وإن جاءت في آخر النهار وأوّل الليل فالأمر بالخلاف‏.‏

والمشرقية بالجملة خير من المغربية‏.‏

في الرياح المغربية‏.‏

هذه الرياح إن جاءت في آخر الليل وأول النهار من هواء لم تعمل فيه الشمس فهي أكثف وأغلظ وإن جاءت في آخر النهار وأول الليل فالأمر بالخلاف‏.‏

 الفصل الحادي عشر موجبات المساكن

قد ذكرنا في باب تغيرات الهواء أحوالاً للمساكن ونحن نريد أن نورد أيضاً فيها كلاماً مختصراً على ترتيب آخر ولا نبالي أن نكرر بعض ما سلف‏.‏

في أحكام المساكن قد علمت أن المساكن تختلف أحوالها في الأبدان بسبب ارتفاعها وانخفاضها في أنفسها ولحال ما يجاورها من ذلك ومن الجبال ولحال تربتها هل هي طينة أو نزة أو حمأة أو بها قوة معدن ولحال كثرة المياه وقلتها ولحال ما يجاورها من مثل الأشجار والمعادن والمقابر والجيف ونحوها‏.‏

وقد علمت كيف يتعرّف أمزجة الأهوية من عروضها ومن تربتها ومن مجاورة البحار والجبال لها ومن رياحها ونقول بالجملة‏:‏ إن كل هواء يسرع إلى التبرد إذا غابت الشمس ويسخن إذا طلعت فهو لطيف وما يضاده بالخلاف‏.‏

ثم شر الأهوية ما كان يقبض الفؤاد ويضيّق النفس ثم لنفصل الآن حال مسكن مسكن‏.‏

في المساكن الحارة‏.‏

المساكن الحارة مسوّدة مفلفلة للشعور مضعفة للهضم لماذا كثر فيها التحليل جدا وقلت الرطوباث أسرع الهرم إلى أهلها كما في الحبشة فإن أهلها يهرمون من بلادهم في ثلاثين سنة وقلوبهم خائفة لتحلل الروح جداً‏.‏

والمساكن الحارة أهلها ألين أبداناً‏.‏

في المساكن الباردة‏.‏

المساكن الباردة أهلها أقوى وأشجع وأحسن هضماً كما علمت فإن كانت رطبة كان أهلها لحيمين شحيمين غائري العروق جافي المفاصل غضين بضين‏.‏

في المساكن الرطبة‏.‏

المساكن الرطبة أهلها حسنو السحنات لينو الجلود يسرع إليهم الاستر‏.‏

ء في رياضاتهم ولا يسخن صيفهم شديداً ولا يبرد شتاؤهم شديداً وتكثر فيهم الحميّات المزمنة والإسهال ونزف في المساكن اليابسة‏.‏

المساكن اليابسة يعرض لأصحابها أن تيبس أمزجتهم وتقحل جلودهم وتتشقق ويسبق إلى أثمغتهم اليبس ويكون صيفهم حاراً وشتاؤهم بارد الضد ما أوضحناه‏.‏

في المساكن العالية‏.‏

سكان المساكن العالية أصحاء أقوياء أجلاد طويلو الأعمار‏.‏

في المساكن الغائرة‏.‏

سكان الأغوار يكونون دائماً في ومد وكمد ومياه غير باردة خصوصاً إن كانت راكدة أو مياهاً بطيحية أو سبخية وعلى أن مياهها بسبب هوائها رديئة‏.‏

في المساكن الحجرية المكشوفة هؤلاء يكون هواؤهم حاراً شديداً في الصيف بارداً في الشتاء وتكون أبدانهم صلبة مدمجة كثيرة الشعر قوية بنية المفاصل تغلب عليهم اليبوسة ويسهرون وهم سيئو الأخلاق مستكبرون مستبدون ولهم نجدة في الحروب وذكاء في الصناعات وحدة‏.‏

في المساكن الجبلية الثلجية‏.‏

سكان المساكن الجبلية الثلجية حكمهم حكم كان سائر البلاد الباردة وتكون بلادهم بلاد أريحية وما دام الثلج باقياً تولد منها رياح طيبة فإذا ذابت وكانت الجبال بحيث تمنع الرياح عادت ومدة‏.‏

في المساكن البحرية‏.‏

هذه البلاد يعتدل حرها وبردها لاستعصاء رطوبتها على الانفعال وقبول ما ينفذ فيها وأما في الرطوبة واليبوسة فيميل إلى الرطوبة لا محالة فإن كانت شمالية كان قرب البحر وغور المسكن أعدل لها وإن كانت جنوبية حارة الضد من ذلك‏.‏

في المساكن الشمالية‏.‏

هذه المساكن في أحكام البلاد والفصول الباردة التي تكثر فيها أمراض الحقن والعصر وتكثر الأخلاط فيها مجتمعة في الباطن‏.‏

ومن مقتضياتها جودة الهضم وطول العمر ويكثر فيهم الرعاف لكثرة الامتلاء وقلة التحلل فتتفجّر العروق‏.‏

وأما الصرع فلا يعرض لهم لصحة باطنهم ووفور حرارتهم الغريزية فإن عرض كان قوياً لأنه لن يعرض إلا لسبب قوي‏.‏

ويسرع برء القروح في أبدانهم لقوتهم وجودة دمائهم ولأنه ليس من خارج سبب يرخّيها ويلينها ولشدة حرارة قلوبهم تكون فيهم أخلاق سبعية‏.‏

ويعرض لنسائهم أن لايستنقين فضل استنقاء بالطمث فإن طمثهن لايسيل سيلاناً كافياً لتقبض المسالك وعدم ما يسيل ويرخي فلذلك يكن فيما قالوا عواقر لأن الأرحام فيهن غير نقية‏.‏

وهذا خلاف ما يشاهد عليه الحال في بلاد الترك بل أقول‏:‏ إن اشتداد حرارتهن الغريزية يقاوم ما ينقص من فعل الأسباب المسيّلة والمرخية من خارج‏.‏

قالوا‏:‏ وقلما يعرض لهن الإسقاط وذلك دليل صحيح على أن القوى في سكان هذا الصقع قوية ويعسر ولادهن لأن أعضاء ولادتهن منضمة منسدة وأكثر ما يسقطن للبرد وتقل ألبانهن وتغلظ للبرد الحابس من النفوذ والسيلان‏.‏

وقد يعرض في هذه البلدة وخصوصاً لضعاف القوى مثل النساء كزاز وسل وخصوصاً للواتي تضعن فإنه يعرض لهن السل والكزاز كثير الشدة تزحرهن لعسر الولادة فتنصدع العروق التي في نواحي الصدر أو أجزاء من العصب والليف فيعرض من الأول سل ومن الثاني كزاز ويكون مراق البطن منهن عرضة للانصداع عند شدة العسر‏.‏

ويعرض للصبيان أدرة الماء ويزول مع الكبر‏.‏

ويعرض للجواري ماء البطن والأرحام ويزول مع الكبر‏.‏

والرمد يعرض لهم في النادر وإذا عرض كان شديداً‏.‏

في المساكن الجنوبية‏.‏

المساكن الجنوبية أحكامها أحكام البلاد والفصول الحارة وأكثر مياهها يكون ملحاً كبريتياً‏.‏

ورؤوس سكانها تكون ممتلئة مواد رطبة لأن الجنوب يفعل ذلك‏.‏

وبطونهم دائمة الاختلاف ما لا بد أن يسيل إلى معدهم من رؤوسهم ويكونون مسترخي الأعضاء ضعافها وحواسهم ثقيلة وشهواتهم للطعام والشراب ضعيفة أيضاَ‏.‏

ويعظم خمارهم من الشراب لضعف رؤوسهم ومعدهم ويعسر برء قروحهم وتترهل وتكثر بها في النساء نزف الحيض ولا يحبلن إلا بعسر ويسقطن في الأكثر لكثرة أمراضهن لا لسبب آخر ويصيب الرجال اختلاف الدم والبواسير والرمد الرطب السريع التحلل‏.‏

وأما الكهول فمن جاوز الخمسين فيصيبهم الفالج من نوازلهم ويصيب عامتهم لسبب امتلاء الرؤوس الربو والتمدّد والصرع ويصيبهم حميّات يجتمع فيها حر وبرد والحميّات الطويلة الشتوية والليلية وتقل فيهم الحميات الحارة لكثرة استطلاقاتهم وتحلّل اللطيف من أخلاطهم‏.‏

في المساكن المشرقيّة‏.‏

المدينة المفتوحة إلى المشرق الموضوعة بحذائه صحيحة جيدة الهواء تطلع عليهم الشمس في أول النهار ويصفو هواؤهم ثم ينصرف عنهم وقد صفى‏.‏

وتهب عليهم رياح لطيفة ترسلها إليهم الشمس وتتبعها بنفسها وتتفق حركاتها‏.‏

في المساكن المغربية‏.‏

المدينة المكشوفة إلى المغرب المستورة عن المشرق لا توافيها الشمس إلى حين وكما توافيها تأخذ في البعد عنها لا في القرب إليها فلا تلطف هواءها ولا تجففه بل تتركه رطباً غليظاً وإن أرسلت إلى المدينة رياحاً أرسلتها مغربية وليلاً فتكون أحكامها أحكام البلاد الرطبة المزاج المعتدلة الحرارة الغليظة ولولا ما يعرض من كثافة الهواء لكانت تشبه طباع الربيع لكنها تقصر عن صحة هواء البلاد المشرقية قُصُوراً كثيراً فلا يجب أن يلتفت إلى قوله من جزم أن قوة هذه البلاد قوة الربيع قولاً مطلقاً بل إنها بالقياس إلى بلاد أخرى جيدة جداً‏.‏

ومن المعنى المذموم فيها أن الشمس لا توافيهم إلا وهي مستولية على تسخين الإقليم لعلوها تطلع عليهم لذلك دفعة بعد برد الليل ولرطوبة أمزجة هوائهم تكون أصواتهم باحة وخصوصاً في الخريف لنوازهم‏.‏

في اختيار المساكن وتهيئتها‏.‏

ينبغي لمن يختار المساكن أن يعرف تربة الأرض وحالها في الارتفاع والانخفاض والانكشاف والإستتار وماءها وجوهر مائها وحاله في البروز والانكشاف أو في الارتفاع والانخفاض وهل هي معرّضة للرياح أو غائراً في الأرض ويعرف رياحهم‏.‏

هل هي الصحيحة الباردة وما الذي يجاورها من البحار والبطائح والجبال والمعادن ويتعرّف حال أهل البلد في الصحة والأمراض وأيّ الأمراض يعتاد بهم ويتعرف قوتهم وهضمهم وجنس أغذيتهم ويتعرف حال مائها وهل هو واسع منفتح أو ضيّق المداخل مخنوق المنافس ثم يجب أن يجعل الكوى والأبواب شرقية شمالية ويكون العمدة على تمكين الرياح المشرقية من مداخلة الأبنية وتمكين الشمس من الوصول إلى كل موضع فيها فإنها هي المصلحة للهواء‏.‏

ومجاورة المياه العذبة الكريمة الجارية الغمرة النظيفة التي تبرد شتاء وتسخن صيفاً خلاف الكامنة أمر جيد منتفع به‏.‏

فقد تكلمنا في الهواء والمساكن كلاماً مشروحاً وخليق بنا أن نتكلم فيما يتلوها من الأسباب المعدودة معها‏.‏

 الفصل الثاني عشر موجبات الحركة والسكون

الحركة يختلف فعلها في بدن الإنسان بما يشتدّ ويضعف وبما يقلٌ ويكثر وبما يخالطها من السكون وهذا عند الحكماء قسم برأسه وبما يتعاطاه من المواد والحركة الشديدة والكثيرة والقليلة المخالطة للسكون يشترك في تهييج الحرارة إلا أن الشديدة الغير الكثيرة تفارق الكثيرة الغير الشديدة والكثيرة المخالطة للسكون بأنها تسخن البدن سخونة كثيرة وتحلل إن حللت أقل‏.‏

وأما الكثيرة فإنها تحلل بالرفق فوق ما يسخن وإذا أفرد كل واحد منهما برد لفرط تحليله الحار الغريزي وجفف أيضاَ‏.‏

وأما إذا كانت متعاطاة لمادة فربما كانت المادة تفعل ما يعين فعلها وربما كانت تفعل ما ينقص فعلها مثلاً إن كانت الحركة حركة صناعة القصارة فإنها يعرض لها أن تفيد برد أو رطوبات وإن كانت حركة صناعة الحدادة عرض لها أن تفيد فضل سخونة وجفاف‏.‏

وأما السكون فهو مبرّد دائماً لفقدان انتعاش الحرارة الغريزية والإحتقان الحانق ومرطب لفقد التحلّل من الفضول‏.‏

 الفصل الثالث عشر موجبات النوم واليقظة

النوم شديد الشبه بالسكون واليقظة شديدة الشبه بالحركة لكن لهما بعد ذلك خواص يجب أن نعتبر فنقول‏:‏ إن النوم يقوي القوى الطبيعية كلها بحقن الحرارة الغريزية ويرخي القوى النفسانية بترطيبه مسالك الروح النفساني وإرخائه إياها وتكديرها جوهر الروح ويمنع ما يتحلل ولكنه يزيل أصناف الإعياء ويحبس المستفرغات المفرطة لأن الحركة تزيد المستعدات للسيلان إسالة إلا ما كان من المواد في ناحية الجلد فربما أعان للنوم على دفعه لحصره الحرارة داخلاً وتوزيعه الغذاء في البدن واندفاع ما قرب من الجلد بضن ما بعد ولكن اليقظة في هذا أبلغ على أن النوم أكثر تعريفاً من اليقظة وذلك لأن تعريفه على سبيل الاستيلاء على المادة لا على سبيل التحليل الرقيق المتّصل‏.‏

ومن عرق كثيراً في نومه ولا سبب له من أسباب أخرى فإنه يمتلىء من الغذاء بما لا يحتمله فإن صادف النوم مادة مستعدّة للهضم أو النضج أحالها إلى طبيعة الدم وسخنها فانبث الحار في البدن فسخن البدن سخونة غريزية وإن صادف أخلاطاً حارة مرارية وطال زمانه سخن البمن صخونة غريبة وإن صادف خلاء تبرد بما يحلل أو خلطاً عاصياً على القوة الهائمة برد بما ينشر منه واليقظة تفعل أضداد جميع ذلك لكنها إذا أفرطت أفسدت مزاج الدماغ إلى ضرب من اليبوسة وأضعفته فخلطت العقل وأحرقت الأخلاط فأحدثت أمراضاً حادة‏.‏

والنوم المفرط يحدث ضدّ ذلك فيحدث بلادة القوى النفسانية وثقل الدماغ والأمراض الباردة وذلك بما يمنع من التحلل والسهر يزيد في الشهوة ويجوع بما يحلل من المادة وينقص من الهضم بما يحلّل من القوة والتحليل بين سهر ونوم رديء الأحوال كلها‏.‏

والغالب من حال النوم أن الحز فيه يبطن والبرد يظهر ولذلك يحتاجون من الدثار لأعضائهم كلها إلى ما لا يحتاج إليه اليقظان‏.‏

وستجد من أحكام النوم وما يتعرف منه ومن أحواله كلاماً كثيراً في الكتب المستقبلة‏.‏

 الفصل الرابع عشر موجبات الحركات النفسانية

جميع العوارض النفسانية يتبعها أو يصحبها حركات الروح إما إلى خارج وإما إلى داخل وذلك إما دفعة وإما قليلاً قليلاً ويتبع حركتها إلى خارج برد الباطن وربما أفرط ذلك فيتحلل دفعة فيبرد الباطن والظاهر ويتبعه غشي أو موت ويتبع حركتها إلى داخل برودة الظاهر وحرارة الباطن‏.‏

وربما اختنقت من شدّة الانحصار فيبرد الظاهر والباطن ويتبعه غشي عظيم أو موت‏.‏

والحركة إلى خارج إما دفعة كما عند الغضب وإما أولاً فأولاً كما عند اللذة وعند الفرح المعتدل‏.‏

والحركة إلى داخل إما دفعة كما عند الفزع وإما أولاً فأولاً كما عند الحزن‏.‏

والاختناق والتحلل المذكوران إنما يتبعان دائماً ما يكون دفعة‏.‏

وأما النقصان وذبول الغريزية فيتبع دائماً ما يكون قليلاً قليلاً - أعني بالنقصان الاختفاق بالتدريج - وفي جزء جزء لا دفعة وقد يتفق أن يتحرك إلى جهتين في وقت واحد إذا كان العارض يلزمه عارضان مثل الهم‏:‏ فإنه قد يعرض معه غضب وحزن فتختلف الحركتان ومثل الخجل‏:‏ فإنه قد يقبض أولاً إلى الباطن ثم يعود العقل والرأي فيبسط المنقبض فيثور إلى خارج فيحمر اللون‏.‏

وقد ينفعل البدن عن هيئات نفسانية غير التي ذكرناها مثل التصورات النفسانية فإنها تثير أموراً طبيعية كما قد يعرض أن يكون المولود مشابهاً لمن يتخيل صورته عند المجامعة ويقرب لونه من لون ما يلزمه البصر عند الإنزال‏.‏

وهذه أحوال ربما اشمأز عن قبولها قوم لم يقفوا على أحوال غامضة من أحوال الوجود‏.‏

وأما الذين لهم غوص في المعرفة فلا ينكرونها إنكار ما لا يجوز وجوده‏.‏

ومن هذه القبيل اتباع حركة الدم من المستعد لها إذا كَثر تأمله ونظره في الأشياء الحمر ومن هذا الباب تضرُس الإنسان لأكل غيره من الحموضة وإصابته الألم في عضو يؤلم مثله غيره إذا راعه ومن هذا الباب تبدل المزاج بسبب تصور ما يخاف أو يفرح به‏.‏

 الفصل الخامس عشر موجبات ما يؤكل ويشرب

ما يؤكل ويشرب يفعل في بدن الإنسان من وجوه ثلاثة‏:‏ فإنه يفعل فعلاً بكيفيته فقط وفعلاً بعنصره وفعلاً بجملة جوهره وربما تقاربت مفهومات هذه الألفاظ بحسب التعارف اللغوي‏.‏

إلا أنا نصطلح في استعَمالها على معان نشير إليها‏.‏

فأما الفاعل بكيفيته فهو أن يكون من شأنه أن يتسخن إذا حصل في بدن الإنسان أو يتبرد فيسخن بسخونته ويبرد ببرده من غير أن يتشبه به‏.‏

وإما بعنصره‏:‏ فأن يكون بحيث يستحيل عن طباعه فيقبل صورة جزء عضو من أعضاء الإنسان إلا أن عنصره مع قبوله صورته قد يتفق أن يبقى فيه من أول الأمر إلى أن يتم الانعقاد‏.‏

والتشبه بقية من كيفياته التي كانت له ما هو أشد في بابها من الكيفيات لبدن الإنسان مثل الدم المتولد من الخس فإنه يصحبه من البرودة ماهوأبرد من مزاج الإنسان وإن كان قد صار دماً وصلح أن يكون جزء عضو إنسان‏.‏

والدم المتولد من النوم بالضد وأما الفاعل بجوهره فهو الفاعل بصورته النوعية التي بها هو هو لا بكيفيته من غير تشبه بالبدن أو مع تشته بالبدن وأعني بالكيفية إحدى هذه الكيفيات الأربع فالفاعل بالكيفية لا مدخل لمادته في الفعل والفاعل بالعنصر هو الذي إذا استحال عنصره عن جوهره استحالة يوجبها قوة في البدن قام بدل ما يتحلل أولاً وذكى الحرارة الغريزية بالزيادة في الدم ثانياً وربما فعل أيضاً بالكيفية الباقية فيه ثالثاً‏.‏

والفاعل بالجوهر هو الذي يفعل بصورة نوعه الحاصلة بعد المزاج الذي إذا امتزجت بسائطه وحدث منها شيء واحد استعد لقبول نوع وصورة زائدة على بسائط تلك الصورة ليست الكيفيات الأول التي للعنصر ولا المزاج الكائن عنها بل كمال يحصل للعنصر بحسب استعداد حصل له من المزاج مثل القوة الجاذبة في مغناطيس ومثل طبيعة كل نوع من أنواع الحيوان والنبات المستفادة بعد المزاج بإعداد المزاج وليست من بسائط المزاج ولا نفس المزاج إذ ليست حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة لا بسيطة ولا ممزوجة بل هي مثل لون أو رائحة أو نفس أو صورة أخرى ليست من المحسوسات‏.‏

وهذه الصورة الحادثة بعد المزاج قد يتفق أن يكون كمالها الانفعال من الغير إذ كانت هذه الصورة قوة إنفعالية وقد يتفق أن يكون كمالها فعلاً في الغير إذا كانت هذه الصورة قوية على فعل في الغير‏.‏

وإذا كانت فعالة في الغير قد يتفق أن يكون فعلها في بدن الإنسان وقد يتفق أن لا يكون‏.‏

وإن كانت قوة تفعل في بدن الإنسان فقد يتفق أن تفعل فعلاً ملائماً وقد يتفق أن تفعل فعلاً غير ملائم‏.‏

وتكون جملة الفعل فعلاً ليس مصدره عن مزاجه بل عن صورته النوعية الحادثة بعد المزاج فلهذا يسمى هذا فعلاً بجملة الجواهر أي بصورة النوع لا بالكيفية أي لا بالكيفيات الأربع وما هو مزاج عنها‏.‏

أما الملائم فمثل فعل ‏"‏ فاوانيا ‏"‏ في إبطاله الصرع‏.‏

وأما المنافي فمثل قوة البيش المفسدة لجوهر الإنسان‏.‏

ونرجع الآن فنقول‏:‏ إنا إذا قلنا للشيء المتناول أو المطلوخ أنه حار أو بارد فإنما نعني أنه كذلك بالقوة لا بالفعل ونعني أنه بالقوة أحر من أبداننا وأبرد من أبداننا ونعني بهذه القوة قوة معتبرة بوقت فعل حرارة بدننا فيها بأن يكون إذا انفعل حاملها عن الحار الغريزي الذي لنا حدث حينئذ فيها ذلك بالفعل وربما عنينا بهذه القوة شيئاً آخر وهو أن تكون القوة بمعنى جودة الاستعداد كقولنا إن الكبريت حار بالقوة وربما اكتفينا بقولنا إن الشيء حار أو بارد إلى الأغلب في مزاجه من الأركان الأولى غير ملتفتين إلى جانب فعل بدننا فيه‏.‏

وقد نقول للدواء إنه بالقوة كذا إذا كانت القوة بمعنى المَلَكَةِ كقوة الكاتب التارك للكتابة على الكتابة مثل قولنا إن البيش بالقوة مفسد‏.‏

والفرق بين هذا وبين الأول أن الأول ما لم يُحِلْهُ البدن إحالَةً ظاهرة لم يخرج إلى الفعل وهذا بما أن يفعل بنفس الملاقاة كسم الأفاعي أو بأدنى استحالة في كيفيته كالبيش‏.‏

وبين القوة الأولى والقوة التي ذكرناها قوة متوسطة هي مثل قوة الأدوية السمية‏.‏

ثم نقول إن مراتب الأدوية قد جعلت أربعة‏.‏

المرتبة الأولى منها‏:‏ أن يكون فعل المتناول في البدن بكيفيته فعلاً غير محسوس مثل أن يسخن أو يبرّد تسخيناً أو تبريداً ليس يفطن له ولا يحس به إلا أن يتكرر أو يكثر‏.‏

والمرتبة الثانية‏:‏ أن يكون الفعل أقوى من ذلك ولكن لا يبلغ أن يضر بالأفعال ضرراً بيناًولا يغير مجراها الطبيعي إلا بالعرض أو إلا أن يتكرر ويكثر‏.‏

والمرتبة الثالثة‏:‏ أن يكون فعلها يوجب بالذات ضرراً بيناً ولكن لا يبلغ أن يهلك ويفسد‏.‏

والمرتبة الرابعة‏:‏ أن يكون بحيث يبلغ أن يهلك ويفسد وهذه خاصية الأدوية السميّة فهذا ما يكون بالكيفية‏.‏

وأما المهلك بجملة جوهره فهو السم‏.‏

ونقول من رأس إن جميع ما يرد على البدن مما يجري بينهما فعل وانفعال‏:‏ إما أن يتغير عن البدن ولا يغيره وإما أن يتغيّر عن البدن ويغيره وإما أن لا يتغيّر عن البدن ويغيره‏.‏

فأما الذي يتغيرعن البدن ولا يغيره‏.‏

تغييراً معتدًا به فإما أن يتشبه بالبدن وإما أن لا يتشبه‏.‏

وأما الذي يتغير عن البدن ويغيّره فلا يخلو إما أن يكون كما يتغير عن البدن يغيّر البدن ثم إنه يتغير عن البدن اَخر الأمر فيبطل بغيره وإما أن لا يكون كذلك بل يكون هو الذي يغير البدن آخر الأمر ويفسده‏.‏

والقسم الأول إما أن يكون بحيث يتشبه بالبدن أو لا يكون بحيث يتشبّه به فإن تشبه به فهو الغذاء الدوائي وإن لم يتشبّه فهو الدواء المطلق‏.‏

والقسم الثاني فهو الدواء السمّي‏.‏

وأما الذي لا يتغير عن البدن البتة ويغيره فهو السم المطلق ولسنا نعني بقولنا إنه لا يتغير عن البدن أنه لا يسخن في البدن بفعل الحار الغريزي فيه بل أكثر السموم ما لم يسخن في البدن بفعل الحار الغريزي فيه لم يؤثر فيه بل نعني أنه لا يتغير في صورته الطبيعية بل لا يزال يفعل وهو ثابت القوة والصورة حتى يفسد البدن وقد تكون طبيعة هذا حارة فتعين طبيعته خاصيته في تحليل الروح كسم الأفعى والبيش‏.‏

وقد تكون باردة فتعين طبيعته خاصيته في إخماد الروح وإيهانه كسم العقرب والشوكران وجميع ما يبرّد وقد يغيّر البدن آخر الأمر تغييراً طبيعياً وهو التسخين‏.‏

فإنه إذا استحال إلى الدم زاد لا محالة في التسخين حتى إن الخس والقرع يسخن هذا التسخين إلا أنا لسنا نقصد بالتغيير هذا التسخين بل ما كان صادراً عن كيفية الشيء ونوعه بعد باق‏.‏

والدواء الغذائي يستحيل عن البدن بجوهره ويستحيل عنه بكيفيته لكنه يستحيل أولاً في كيفيته فمنه ما يستحيل أولاً إلى حرارة فيسخن كالثوم ومنه ما يستحيل أولاً إلى برودة فيبرد كالخس‏.‏

وإذا استتمت الاستحالة إلى الدم كان أكثر فعله التسخين بتوفير الدم وكيف لا يسخن وقد استحالت حارة وخلعت برودتها‏.‏

لكنه قد يصحب أيضاً كل واحد منهما من الكيفية الغريزية شيء بعد الاستحالة في الجوهر فيبقى في الدم الحادث من الخس تبريد ما ومن الدم الحادث من الثوم تسخين ما ولكن إلى حين‏.‏

والأدوية الغذائية فمنها ما هو أقرب إلى الدوائية ومنها ما هو أقرب إلى الغذائية كما أن الأغذية نفسها منها ما هو قريب الطباع إلى جوهر الدم كالشراب ومح البيض وماء اللحم ومنها ما هو أبعد منه يسيراً مثل الخبز واللحم ومنها ما هو أبعد جداً كالأغذية الدوائية‏.‏

ونقول‏:‏ إن الغذاء يغير حال البدن بكيفيته وكميته إما بكيفيته فقد عرف ذلك وإما بكميته فذلك إما بأن يزيد فيورث التخمة والسدد ثم العفونة واما بأن ينقص فيورث الذبول والزيادة في كمية الغذاء مبردة دائماً اللهم إلا أن يعرض منها عفونة فتسخن فإن العفونة كما أنها إنما تحدث عن حرارة غريبة كذلك تحدث عنها أيضاً حرارة غريبة‏.‏

ونقول أيضاً‏:‏ إن الغذاء منه لطيف ومنه كثيف ومنه معتدل‏.‏

واللطيف هو الذي يتولد منه دم رقيق والكثيف هو الذي يتولد منه دم ثخين وكل واحد من الأقسام فإما أن يكون كثير التغذية وإما أن يكون يسير التغذية‏.‏

مثال اللطيف الكثير الغذاء‏:‏ الشراب وماء اللحم ومح البيض المسخّن أو النيمبرشت فإنه كثير الغذاء لأن كثر جوهره يستحيل إلى الغذاء‏.‏

ومثال الكثيف القليل الغذاء‏:‏ الجبن والقديد والباذنجان وما يشبهها فإن الشيء المستحيل منها إلى الدم قليل‏.‏

ومثال الكثيف الكثير الغذاء‏:‏ البيض المسلوق ولحم البقر‏.‏

ومثال اللطيف القليل الغذاء‏:‏ الجلاب والبقول المعتدلة القوام والكيفية‏.‏

ومن الثمار التفاح والرمان وما يشبهه فإن كل واحد من هذه الأقسام قد يكون رديء الكيموس وقد يكون محمود الكيموس‏.‏

مثال اللطيف الكثير الغذاء الحسن الكيموس‏:‏ صفرة البيض والشراب وماء اللحم‏.‏

ومثال اللطيف القليل الغذاء الحسن الكيموس‏:‏ الخس والتفاح والرمان‏.‏

ومثال اللطيف القليل الغذاء الرديء الكيموس‏:‏ الفجل والخردل وأكثر البقول‏.‏

ومثال اللطيف الكثير الغذاء الرديء الكيموس‏:‏ الرئة ولحم النواهض‏.‏

ومثال الكثيف الكثير الغذاء الحسن الكيموس‏:‏ البيض المسلوق ولحم الحولي من الضأن‏.‏

ومثال الكثيف الكثير الغذاء الرديء الكيموس‏:‏ لحم البقر ولحم البط ولحم الفرس‏.‏

ومثال الكثيف القليل الغذاء الرديء الكيموس‏:‏ القديد‏.‏

وأنت تجد في هذه الجملة المعتدل‏.‏

أحوال المياه إن الماء ركن من الأركان ومخصوص من جملة الأركان بأنه وحده من بينها يدخل في جملة ما يتناول لا لأنه يغذو بل لأنه ينفذ الغذاء ويصلح قوامه وإنما قلنا إن الماء لا يغذو لأن الغاذي هو الذي بالقوة دم وبقوة أبعد من ذلك جزء عضو الإنسان‏.‏

والجسم البسيط لا يستحيل إلى قبول صورة الدموية وإلى قبول صورة عضو الإنسان ما لم يتركب لكن الماء جوهر يعيّن في تسييل الغذاء وترقيقه وبذرقته نافذاً إلى العروق ونافذاً إلى المخارج لا يستغني عن معونته هذه في تمام أمر الغذاء‏.‏

ثم المياه مختلفة لا في جوهر المائية ولكن بحسب ما يخالطها وبحسب الكيفيات التي تغلب عليها‏.‏

فأفضل المياه مياه العيون ولا كل العيون ولكن ماء العيون الحرة الأرض التي لا يغلب على تربتها شيء من الأحوال والكيفيات الغريبة أو تكون حجرية فتكون أولى بأن لا تعفن العفونة الأرضية ولكن التي من طينة حرّة خير من الحجرية ولا كل عين حرة بل التي هي مع ذلك جارية ولا كل جارية بل الجارية المكشوفة للشمس والرياح فإن هذا مما تكتسب بها الجارية فضيلة‏.‏

وأما الراكدة فربما اكتسبت رداءة بالكشف لا تكتسبها بالغور والستر‏.‏

واعلم أنَ المياه التي تكون طينية المسيل خير من التي تجري على الأحجار فإن الطين ينقّي الماء ويأخذ منه الممزوجات الغريبة ويروقه والحجارة لا تفعل ذلك لكنه يجب أن يكون طين مسيلها حرًا لا حمأة ولا سبخة ولا غير ذلك‏.‏

فإن اتفق أن كان هذا الماء غمراً شديد الجرية تحيل كثرته ما يخالطه إلى طبيعته يأخذ إلى الشمس في جريانه فيجري إلى المشرق خصوصاً إلى الصيفي منه فهو أفضل لا سيما إذا بعد جداً من مبدئه ثم ما يتوجه إلى الشمال‏.‏

والمتوجّه إلى المغرب والجنوب رديء وخصوصاً عند هبوب الجنوب‏.‏

والذي ينحدر من مواضع عالية مع سائر الفضائل أفضل‏.‏

وما كان بهذه الصفة كان عذباَ يخيل أنه حلو ولا يحتمل الخمر إذا مزج به منه إلا قليلاً وكان خفيف الوزن سريع التبرد والتسخّن لتخلخله بارداً في الشتاء حاراً في الصيف لا يغلب عليه طعم البتة ولا رائحة ويكون سريع الإنحدار من الشراسيف سريع تهري ما يهرى فيه وطبخ ما يطبخ فيه واعلم أن الوزن من الدستورات المنجحة في تعرف حال الماء فإن الأخف في أكثر الأحوال أفضل وقد يعرف الوزن بالمكيال وقد يعرف بأن تبل خرقتان بماءين مختلفين أو قطنتان متساويتان في الوزن ثم يجففان تجفيفاً بالغاً ثم يوزنان فالماء الذي قطنته أخف فهو أفضل‏.‏

والتصعيد والتقطيرمما يصلح المياه الرديئة فإن لم يمكن ذلك فالطبخ فإن المطبوخ على ما شهد به العلماء أقل نفخاً وأسرع انحداراً‏.‏

والجهال من الأطباء يظنون الماء المطبوخ يتصعد لطيفه ويبقى كثيفه فلا فائدة في الطبخ إذ يزيد الماء تكثيفاً ولكن يجب أن تعلم أن الماء في حدّ مائيته متشابه الأجزاء في اللطافة والكثافة لأنه بسيط غير مركب لكن الماء يكثف إما باشتداد كيفية البرد عليه وإما بمخالطة شديدة من الأجزاء الأرضية التي أفرط صغرها ليس يمكنها أن تنفصل عنه وترسب فيه لأنها ليست بمقدار ما يقدر أن يشق اتصال الماء فيرسب فيه صغراً فيضطرها ذلك إلى أن يحدث لها بجوهر الماء امتزاج ثم الطبخ يزيل التكثيف الحادث عن البرد أولاً ثم يخلخل أجزاء الماء خلخلة شديدة حتى يصير أدق قواماً فيمكن أن تنفصل عنه الأجزاء الثقيلة الأرضية المحبوسة في كثافته وتخرقه راسبة وتباينه بالرسوب ويبقى ماء محضاً قريباً من البسيط ويكون الذي انفصل بالتبخير مجانساً للباقي غير بعيد منه لأن الماء إذا تخلص من الخلط تشابهت أجزاؤه في اللطافة فلم يكن لصاعدها كثير فضل على باقيها‏.‏

فالطبخ إنما يلطف الماء بإزالة تكثيف البرد وبترسيب الخلط المخالط له‏.‏

والدليل على هذا أنك إذا تركت المياه الغليظة مدة كثيرة لم يرسب منها شيء يعتد به وإذا طبختها رسب في الوقت شيء كثير وصار الماء الباقي خفيف الوزن صافياً وكان سبب الرسوب هو الترقيق الحاصل بالطبخ‏.‏

ألا ترى أن مياه الأودية الكبار مثل نهر جيحون - وخصوصاً ما كان منها مغترفاً من آخره - يكون عند الاغتراف في غاية الكدر ثم يصفو في زمان قصير كرة واحدة بحيث إذا استصفيتها مرة أخرى لم يرسب شيء يعتدّ به البتة‏.‏

وقوم يفرطون في مدح ماء النيل إفراطاً شديداً ويجمعون محامده في أربعة بعد منبعه وطيب مسلكه وأخذه إلى الشمال عن الجنوب ملطف لما يجري فيه من المياه‏.‏

وأما غمورته فيشاركه فيها غيره‏.‏

والمياه الردئية لو استصفيتها كل يوم من إناء إلى إناء لكان الرسوب يظهر عنها كل يوم من الرأس ومع ذلك فإنه لا يرسب عنها ما من شأنه أن يرسب إلا بأناة من غير إسراع ومع ذلك فلا يتصفى تصفياً بالغاً والعلّة فيه أن المخالطات الأرضية يسهل رسوبها عن الرقيق الجوهر الذي لا غلظ له ولا لزوجة ولا دهنية ولا يسهل رسوبها عن الكثيف تلك السهولة‏.‏

ثم الطبخ يفيد رقة الجوهر وبعد الطبخ المخض‏.‏

ومن المياه الفاضلة ماء المطر وخصوصاً ما كان صيفياً ومن سحاب راعد‏.‏

وأما الذي يكون من سحاب ذي رياح عاصفة فيكون كدر البخار الذي يتولد منه وكدر السحاب الذي يقطر منه فيكون مغشوش الجوهر غير خالصه إلا أن العفونة تبادر إلى ماء المطر وإن كان أفضل ما يكون لأنه شديد الرقة فيؤثر فيه المفسد الأرضي والهوائي بسرعة وتصير عفونته سبباً لتعفن الأخلاط ويضرّ بالصدر والصوت‏.‏

قال قوم‏:‏ والسبب في ذلك أنه متولد عن بخار يصعد من رطوبات مختلفة ولو كان السبب ذلك لكان ماء المطر مذموماً غير محمود وليس كذلك ولكنه لشدة لطافة جوهره فإن كل لطيف الجوهر قوامه قابل للإنفعال وإذا بودر إلى ماء المطر وأغلي قلّ قبوله للعفونة‏.‏

والحموضات إذا تنوولت مع وقوع الضرورة إلى شرب ماء مطر قابل للعفونة أمن ضرره‏.‏

وأما مياه الأبار والقنى بالقياس إلى مياه العيون فرديئة وذلك لأنها مياه محتقنة مخالطة للأرضيات مدة طويلة لا تخلو عن تعفين ما وقد استخرجت وحركت بقوة قاسرة لا بقوة فيها مائلة إلى الظهور والاندفاع بل بالحيلة والصناعة بأن قرب لها السبيل إلى الرشوح‏.‏

وأردؤها ما جعل لها مسالك في الرصاص فتأخذ من قوته وتوقع كثيراً في قروح الأمعاء‏.‏

وماء النز أردأ من ماء البئر لأن ماء البئر يستجدّ نبوعه بالنزح فتدوم حركته ولا يلبث اللبث الكثير في المحقن ولا يريث في المنافس ريثاً طويلاً‏.‏

وأما ماء النزّ فماء يطول تردده في منافس الأرض العفنة ويتحرّك إلى النبوع والبروز‏.‏

وحركته بطيئة لا تصدر عن قوة اندفاعها بل لكثرة مادتها ولا تكون إلا في أرض فاسدة عفنة‏.‏

وأما المياه الجليدية والثلجية فغليظة والمياه الراكدة الأجمية خصوصاً المكشوفة فرديئة ثقيلة وإنما تبرد في الشتاء بسبب الثلوج وتولد البلغم وتسخن في الصيف بسبب الشمس والعفونة فتولّد المرارة ولكثافتها واختلاط الأرضية بها وتحلل اللطيف منها تولد في شاربيها أطحلة وترق مراقهم وتحبس أحشاءهم وتقضف منهم الأطراف والمناكب والرقاب ويغلب عليه شهوة الأكل والعطش وتحتبس بطونهم ويعسر قيؤهم وربما وقعوا في الاستسقاء لاحتباس المائية فيهم وربما وقعوا في ذات الرئة وزلق الأمعاء والطحال‏.‏

وتضمر أرجلهم وتضعف أكبادهم وتقل من غذائهم بسبب الطحال ويتولّد فيهم الجنون والبواسير والدوالي والأورام الرخوة خصوصاً في الشتاء ويعسر على نسائهم الحبل والولادة جميعاً وتلدن أجنّة متورمين ويكثر فيهن الرجاء والحبل الكاذب ويكثر لصبيانهم الأدر وبكبارهم الدوالي وقروح الساق ولا تبرأ قروحهم وتكثر شهوتهم ويعسر إسهالهم ويكون مع أذى وتقريح الأحشاء ويكثر فيهم الربع وفي مشايخهم المحرقة ليبس طبائعهم وبطونهم‏.‏

والمياه الراكدة كيفما كانت غير موافقة للمعدة وحكم المغترف من العين قريب من حكم الراكد لكنه يفضل الراكد بأن بقاءه في موضع واحد غير طويل وما لم يجر فإن فيه ثقلاً ما لا محالة وربما كان في كثير منه قبض وهو سريع الاستحالة إلى التسخّن في الباطن فلا يوافق أصحاب الحميّات والذين غلب عليهم المرار بل هو أوفق في العلل المحتاجة إلى حبس أو إلى إنضاج‏.‏

والمياه التي يخالطها جوهر معدني أو ما يجري مجراه والمياه العلقية فكلها أردأ لكن في بعضها منافع وفي الذي تغلب عليه قوة الحديد منافع من تقوية الأحشاء ومنه الذرب وإنهاض القوى الشهوانية كلها‏.‏

وسنذكر حالها وحال ما يجري مجراها فيما بعد‏.‏

والجمد والثلج إذا كان نقياً غير مخالط لقوة رديئة فسواء حلّل ماء أو برد به الماء من خارج أو ألقي في الماء فهو صالح وليس تختلف أحوال أقسامه اختلافاً كثيراً فاحشاً إلا أنه أكثف من سائر المياه ويتضرّر به صاحب وجع العصب لماذا طبخ عاد إلى الصلاح‏.‏

وأما إذا كان الجمد من مياه رديئة أو الثلج مكتسباً قوة غريبة من مساقطه فالأولى أن يبرد به الماء محجوباً عن مخالطته‏.‏

والماء البارد المعتدل المقدار أوفق المياه للأصحاء وإن كان قد يضر العصب ويضر أصحاب أورام الأحشاء وهو مما ينبه الشهوة ويشد المعدة والماء الحار يفسد الهضم ويطفي الطعام ولا يسكن العطش في الحال وربما أدى إلى الاستسقاء والدق ويذبل البدن‏.‏

فأما السخن فإن كان فاتراً غثى وإن كان أسخن من ذلك فتجرع على الريق فكثيراً ما يغسل المعدة ويطلق الطبيعة لكن الاستكثار منه رديء يوهن قوة المعدة‏.‏

والشديد السخونة ربما حلل القولنج وكسر الرياح‏.‏

والذين يوافقهم الماء الحار بالصنعة أصحاب الصرع وأصحاب الماليخوليا وأصحاب الصداع البارد وأصحاب الرمد‏.‏

والذين بهم بثور في الحلق والعمور وأورام خلف الأذن وأصحاب النوازل ومن بهم قروح في الحجاب وانحلال الفؤاد في نواحي الصدر ويدر الطمث والبول ويسكن الأوجاع‏.‏

وأما الماء المالح فإنه يهزل وينشف ويسهل أولاً بالجلاء الذي فيه ثم يعقل آخر الأمر بالتجفيف الذي في طبعه ويفسد الدم فيولد الحكة والجرب‏.‏

والماء الكدر يولد الحصى والسدد فليتناول بعده ما يدر‏.‏

على أن المبطون كثيراً ما ينتفع به وبسائر المياه الغليظة الثقيلة لاحتباسها في بطنه وبطء انحدارها ومن ترياقاته الدسم والحلاوات والنوشادرية يطلق الطبيعة شرب منها أو جلس فيها أو احتقن والشبّية تنفع من سيلان فضول الطمث ومن نفث الدم وسيلان البواسير‏.‏

غير أنها شديدة الإثارة للحمى في الأبدان المستعدة لها‏.‏

والحديدي يزيل الطحال ويعين على الباه‏.‏

والنحاسي صالح لفساد المزاج وإذا اختلطت مياه مختلفة جيدة ورديئة غلب أقواها‏.‏

ونحن قد بينا تدبير المياه الفاسدة في باب تدبير المسافرين‏.‏

ونذكر باقي أحكام الماء وصفاته وقرى أصنافه في باب الماء في الأدوية المفردة فاطلب ما قلناه من هنالك‏.‏

 الفصل السابع عشر موجبات الاحتباس والاستفراغ

احتباس ما يجب أن يستفرغ بالطبع يكون إما لضعف الدافعة أو لشدة القوة الماسكة فتشبث به أو لضعف الهاضمة فيطول لبث الشيء في الوعاء تلبثاً من القوى الطبيعية إياه إلى استيفاء الهضم أو لضيق المجاري والسدد فيها أو لغلظ المادة أو لزوجتها أو لكثرتها فلا تقوى عليها الدافعة أو لفقدان الإحساس بالحاجة إلى دفعها إذ كان قد تعين في الاستفراغ قوة إرادية كما يعرض في القولنج اليرقاني أو لانصراف من قوة الطبيعة إلى جهة أخرى كما يعرض في البحارين من شدّة احتباس البول أو احتباس البراز بسبب كون الاستفراغ البحراني من جهة أخرى وإذا وقع احتباس ما يجب أن يستفرغ عرض من ذلك أمراض‏.‏

أما من باب أمراض التركيب فالسدة والاسترخاء والتشنج الرطب وما يشبه ذلك وأما من أمراض المزاج فالعفونة وأيضاً الحار الغريزي واستحالته إلى النارية وأيضاً انطفاء الحرارة الغريزية من طول الاحتقان أو شدته فيعقبه البرد وأيضاً غلبة الرطوبة على البدن‏.‏

وأما من الأمراض المشتركة فانصداع الأوعية وانفجارها‏.‏

والتخمة من أردأ أسباب الأمراض وخصوصاً إذا وافت بعد اعتياد الخواء مثل ما يقع من الشبع المفرط في الخطب عقيب جوع مفرط في الحدب‏.‏

وأما من الأمراض المركبة فالأورام والبثور‏.‏

واستفراغ ما يجب أن يحتبس يكون إما لقوة الدافعة أو لضعف الماسكة أو لإيذاء المادة بالثفل لكثرته أو بالتمديد لريحته أو باللذع لحدته وحرافته أو لرقة المادة فيكون كأنها تسيل من نفسها فيسهل اندفاعها وقد يعينها سعة المجاري كما يعرض لسيلان المني أو من إنشافها طولاً أو انقطاعها عرضاً أو انفتاحها عن فوهاتها كما في الرعاف وقد يحدث هذا الاتساع بسبب حادث من خارج أو من داخل وإذا وقع استفراغ ما يجب أن يحتبس عرض من ذلك برد المزاج باستفراغ المادة المشعلة التي يغتذي منها الحار الغريزي وربما عرض منه حرارة مزاج إذا كان ما يستفرغ بارد المزاج مثل البلغم أو قريباً من اعتدال المزاج مثل الدم فيستولي الحار المفرط كالصفراء فيسخن قد يعرض من ذلك اليبس دائماً وبالذات وربما عرضت منه الرطوبة على القياس الذي ذكرناه في عروض الحرارة وذلك عند اعتدال من استفراغ الخلط المجفف أو يعجز من الحرارة الغريزية عن هضم الغذاء هضماً تاماً فيكثر البلغم لكن هذه الرطوبة لا تنفع في المزاج الغريزي ولا تكون غريزية كما أن تلك الحرارة لم تكن غريزية بل كل استفراغ مفرط يتبعه برد ويبس في جوهر الأعضاء وغريزتها وإن لحق بعضها حرارة غريبة ورطوبة غير صالحة‏.‏

وقد يتبع الاستفراغ المفرط من الأمراض لأولي السدة أيضاً لفرط يبس العروق وانسدادها ويتبعه التشنج والكزاز وأما الاحتباس والاستفراغ المعتدلان المصادفان لوقت الحاجة إليها فهما نافعان حافظان للحالة الصحية فقد تكلمنا في الأسباب الضرورية بجنسيتها وإن كانت قد لا يكون أكثر أنواعها ضرورية فلنأخذ في الأسباب الأخرى‏.‏

  السابق   الفهرس   التالي