سقوط بغداد واجتياح التتر بقيادة هولاكو ,وتحليل من عالم دين.

بسم الله الرحمن الرحيم

عدة مقالات هامة وموثقة عن موضوع هام وبه كثير من العبر أنقله لكم بأمانة:





هولاكو.. إعصار من الشرق
(في ذكرى وفاته: 19 ربيع الأول 663هـ)










هولاكو



بعد سلسلة من الصراعات على تولي السلطة بين أمراء البيت الحاكم، تولى "منكوقا آن بن تولوي بن جنكيز خان" عرش المغول في (ذي الحجة 648هـ = إبريل 1250م)، وعمل على إقرار الأمن وإعادة الاستقرار وإقامة الإصلاحات والنظم الإدارية، واختيار القادة الأكْفَاء لإدارة شئون ولاياتهم.



وبعد أن نجح في أن يقرّ الأحوال الداخلية وتخلص من مناوئيه اتجه نحو الفتح والغزو وتوسيع رقعة بلاده؛ فجهز حملتين كبيرتين لهذا الغرض، فأرسل أخاه الأوسط "قوبيلاي" على رأس حملة لفتح أقاليم الصين الجنوبية، ونصّب أخاه الأصغر على رأس حملة لغزو إيران والقضاء على الطائفة الإسماعيلية وإخضاع الخلافة العباسية.



حملة هولاكو على إيران



لم يكن هولاكو قد جاوز السادسة والثلاثين من عمره حين عهد إليه أخوه "منكوقا آن" بهذه المهمة فخرج على رأس جيش هائل قُدّر بنحو 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول، بالإضافة إلى كبار القادة والفرسان، وحرص الخان الأكبر أن يوصي أخاه قبل التحرك بأن يلتزم بالعادات والتقاليد ويطبّق قوانين جده جنكيز خان، وأن يكون هدفه هو إدخال البلاد من ضفاف نهر "جيحون" حتى مصر في دولة المغول، وأن يعامل من يخضع لسلطانه معاملة طيبة، ويذيق الذل من يبدي المقاومة حتى ولو كان الخليفة العباسي نفسه، فعليه أن يزيحه ويقضي عليه إذا ما اعترض طريقه.



وحقق هولاكو هدفه الأول بالاستيلاء على قلاع طائفة الإسماعيلية سنة (654هـ = 1256م) بعد معارك عديدة واستماتة بذلها أفراد الطائفة في الدفاع عن حصونهم وقلاعهم، لكنها لم تُجدِ نفعا إزاء قوة الجيش المغولي، وكان لقضاء المغول على هذه الطائفة المنحرفة وقع حسن وأثر طيب في نفوس العالم الإسلامي، وعمّه الفرح على الرغم مما كان يعانيه من وحشية المغول وسفكهم للدماء؛ وذلك لأن الإسماعيلية كانت تبث الهلع والفزع في النفوس، وتشيع المفاسد والمنكرات والأفكار المنحرفة.



هولاكو في بغداد



مضى هولاكو في تحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء على بغداد والقضاء على الخلافة العباسية؛ فأرسل إلى الخليفة المستعصم بالله يتهدده ويتوعده، ويطلب منه الدخول في طاعته وتسليم العاصمة، ونصحه بأن يسرع في الاستجابة لمطالبه؛ حتى يحفظ لنفسه كرامتها ولدولته أمنها واستقرارها، لكن الخليفة رفض هذا الوعيد وقرر أن يقاوم، على الرغم من ضعف قواته وما كان عليه قادته من خلاف وعداء، فضرب هولاكو حصاره على المدينة المنكوبة التي لم تكن تملك شيئا يدفع عنها قدَرَها المحتوم، فدخل المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م) وارتكب هولاكو وجنوده من الفظائع ما تقشعر لهوله الأبدان.



اهتز العالم الإسلامي لسقوط الخلافة العباسية التي أظلّت العالم الإسلامي أكثر من خمسة قرون، وبلغ الحزن الذي ملأ قلوب المسلمين مداه حتى إنهم ظنوا أن العالم على وشك الانتهاء، وأن الساعة آتية عما قريب لهول المصيبة التي حلّت بهم، وإحساسهم بأنهم أصبحوا بدون خليفة، وهو أمر لم يعتادوه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم).



هولاكو يجتاح الشام



شرع هولاكو بعد سقوط بغداد في الاستعداد للاستيلاء على بلاد الشام ومصر، وفق الخطة المرسومة التي وضعها له أخوه "منكوقا آن" فخرج من أذربيجان في رمضان (657هـ = 1259م) متجها إلى الشام، ونجح بالتعاون مع حلفائه المسيحيين في الاستيلاء على "ميافارقين" بديار حلب، وهي أول مدينة تبتدئ بها الحملة المغولية، ولم تسقط إلا بعد عامين من الحصار، نفدت خلالها المؤن، وهلك معظم سكان المدينة، وبعد سقوط "ميافارقين" واصل هولاكو زحفه نحو "ماردين" فسقطت بعد ثمانية أشهر، وفي أثناء حصار "ميافارقين" كانت قوات من جيش هولاكو تغزو المناطق المحاورة فاستولت على "نصيبين" و"حران" و"الرها" و"البيرة".



بعد ذلك تقدم هولاكو على رأس قواته لمحاصرة حلب، ونصب المغول عشرين منجنيقا حول المدنية وصاروا يمطرونها بوابل من القذائف حتى استسلمت في (التاسع من صفر 658هـ= الحادي والثلاثون من يناير 1260م) وبعد حلب سقطت قلعة "حارم" و"حمص" و"المعرة"، وأصبح طريق الحملة مفتوحا إلى دمشق.



ولما وصلت الأنباء باقتراب المغول من دمشق فرَّ الملك "الناصر يوسف الأيوبي" مع قواته، تاركا مدينته لمصيرها المحتوم، ولم يكن أمام أهالي دمشق بعدما عرفوا ما حل بحلب بعد مقاومتها لهولاكو سوى تسليم مدينتهم، حتى لا تلقى مصير حلب، فسارع عدد من أعيانها إلى زعيم المغول يقدمون الهدايا ويطلبون منه الأمان، في مقابل تسليم مدينتهم فقبل هولاكو ذلك، ودخل المغول المدينة في (السابع عشر من صفر 658هـ= 2 من فبراير 1260م).



رحيل هولاكو المفاجئ إلى إيران



أدى تحقيق الانتصارات المتتالية للمغول إلى الاعتقاد بأنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تتصدى لهم، وأن هؤلاء بلاء من الله سلطه على المسلمين الذين ركنوا إلى الراحة وأهملوا قرآنهم وسُنّة نبيهم وخارت عزائمهم.. وفي وسط هذه الحيرة جاءت الأنباء إلى هولاكو بوفاة أخيه "منكوقا آن خان" في (شعبان 657هـ= أغسطس 1259م) وكان عليه أن يكون قريبا من عملية اختيار خان جديد للمغول، ويساند ترشيح أخيه الأوسط "قوبيلاي" لهذا المنصب، فاضطر إلى العودة إلى إيران وكان في نيته أن يكتفي بما حققه، ولكنه عدل عن ذلك بسبب إلحاح القوات المسيحية التي كانت معه على الاستمرار في الغزو واستعادة بيت المقدس من المسلمين، فأبقى قوة من عساكره تحت إمرة أمهر قواده كيتوبوما (كتبغا) لإتمام عملية الغزو.



انتهاء أسطورة المغول في عين جالوت



وقبل أن يغادر هولاكو الشام (سنة 658هـ = 1260م) أرسل إلى قطز رسالة كلها وعيد وتهديد، يدعوه فيها إلى الاستسلام وإلقاء السلاح، وأنه لا جدوى من المقاومة أمام قوة كُتب النصر لها دائما، غير أن السلطان قطز لم يهتز لكلمات هولاكو، أو يتملكه الخوف والفزع كما تملك غيره من قادة الشام فآثروا الهوان على العزة والكرامة، والحياة تحت سلطان وثني على الموت والاستشهاد دفاعا عن الدين والوطن.



وكان قطز على قدر الحدث العظيم والخطب الجلل، فقتل رُسل هولاكو، وخرج للقتال ولم ينتظر قدوم المغول، والتقى الفريقان في (15 من رمضان 658هـ = 24 من أغسطس 1260م) في موقعه "عين جالوت" بفلسطين، وحمل المسلمون على المغول الذين كانوا تحت قيادة كتبغا حملة صادقة، وقاتلوهم باستبسال وشجاعة من الفجر حتى منتصف النهار، فكتب الله لهم النصر، وهُزِم المغول هزيمة منكرة لأول مرة في تاريخهم، بعد أن كانت القلوب قد يئست من النصر عليهم.



وكان لهذا النصر أثره العظيم في تاريخ المنطقة العربية والعالم الإسلامي، بل في تاريخ العالم بأسره؛ حيث احتفظت مصر بما لها من حضارة ومدنية، وطردت المغول من دمشق، وأصبحت بلاد الشام حتى نهر الفرات تحت حكم المماليك، وخلّصت أوربا من شر عظيم لم يكن لأحد من ملوكها قدرة على دفعه ومقاومته.



هولاكو بعد الهزيمة



حاول هولاكو أن يثأر لهزيمة جيشه في عين جالوت، ويعيد للمغول هيبتهم في النفوس؛ فأرسل جيشا إلى حلب فأغار عليها ونهبها، ولكنه تعرّض للهزيمة بالقرب من حمص في المحرم (659هـ = ديسمبر 1260م) فارتد إلى ما وراء نهر الفرات.



ولم تساعد الأحوال السياسية المغولية في أن يعيد هولاكو غزواته على الشام ويستكمل ما بدأه، فبعد موت "منكوقا آن" تنازع أمراء البيت الحاكم السلطة وانقسمت الإمبراطورية المغولية إلى ثلاث خانات مستقلة، استقل هولاكو بواحدة منها هي خانية فارس، ثم دخل هولاكو في صراع مع "بركة خان" القبيلة الذهبية، مغول القبجاق (جنوب روسيا) واشتعلت الحرب بينهما.



وكان هولاكو يعد نفسه نصيرًا وحاميًا للمسيحية بتأثير زوجته "طقز خاتون" في الوقت الذي أسلم فيه بركة خان ومال إلى نصرة المسلمين، وأدى هذا الصراع إلى تعطل النشاط الحربي لهولاكو في الشام، ثم ما لبث أن أدى نشوب الحروب الداخلية بين أمراء المغول إلى توقف عمليات الغزو والتوسع تماما.



هولاكو يشجع العلماء



مرصد مراغة



وعلى الرغم مما اشتهر به هولاكو من قوة وغلظة وإسراف في القتل وسفك الدماء، فإنه لم يغفل تشجيع رجال الأدب والعلم، فحظي "الجويني" المؤرخ الفارسي المعروف بتقدير هولاكو، ونجح في إقناع هولاكو بألا يحرق مكتبة الإسماعيلية، وكان من نتيجة ارتحاله إلى منغوليا ووقوفه على الأحوال هناك أن ألّف كتاب "تاريخ جنكيز خان وأخلافه". ويؤثر عنه أنه كلف العالم الرياضي "نصير الدين الطوسي" ببناء مرصد في مدينة "مراغة" زوده بأدق الأجهزة المعروفة في زمانه، ويقال بأن المكتبة التي أنشأها الطوسي وألحقها بالمرصد كانت تحوي ما يزيد على 400 ألف مجلد.



وفاة هولاكو



وفي (19 من ربيع الأول 663هـ 9 من يناير 1265م) توفي هولاكو بالقرب من مراغة وهو في الثامنة والأربعين من عمره، تاركا لأبنائه وأحفاده مملكة فسيحة عرفت بإيلخانية فارس، ولم تلبث زوجته "طقز خاتون" أن لحقت به، وحزن لوفاتهما المسيحيون بالشرق، وعدّوهما من القديسين.



هوامش ومصادر:




رشيد الدين فضل الله الهمداني - جامع التواريخ - (تاريخ هولاكو خان) القاهرة 1960م.



فؤاد عبد المعطي الصياد - المغول في التاريخ - دار النهضة العربية – بيروت - 1970.



عباس إقبال – تاريخ المغول- ترجمة عبد الوهاب علوب – المجمع الثقافي – أبو ظبي – 1420هـ= 2000م.



السيد الباز العريني – المغول – دار النهضة العربية – بيروت – 1981م.



عبد السلام عبد العزيز فهمي – تاريخ الدولة المغولية في إيران – دار المعارف – القاهرة – 1981م


ومقال آخر شيق وجميل يلقي الضوء على واقعة مقتل المستعصم آخر خلفاء العباسيين:\\



كيفية قتل المستعصم :

يذكر الطقطقي أن المستعصم استشهد في رابع صفر سنة ست وخمسين وستمائة (السبت 16/شباط/1258 م).
و العصامي في ( سمت النجوم في ابناء الأوائل و التوالي) يذكر أن هولاكو استبقى المستعصم أياما الى أن استصفى أمواله و خزائنه و ذخائره، ثم رمى رقاب أولاده و ذويه و أتباعه، و أمر أن يوضع الخليفة في غرارة، و يرفس بالأرجل حتى يموت.
و يذكر العصامي أيضا رواية ، دون أن ينسبها لأحد، عن خروج المستعصم الى هولاكو قبل وقوع شئ.
أما الدميري في (حياة الحيوان الكبرى) يذكر أن المستعصم قد أُخذ فخلع و وضع في جوالق و ضرب بالمرازب و قيل بمداق الجص الى أن مات.
و أما النويري فيذكر في (نهاية الأرب) أنه لما ملك هولاكو بغداد أحضر الخليفة المستعصم بالله و أمر أن يجعل في عدل و يداس بأرجل الخيل حتى يموت، ففعل به ذلك. و من عادة التتار أن لايسفكوا دماء الملوك و الأكابر. و سبي كل من احتواه القصر من الحريم، واستولى على ذخائر الخلفاء، و نهبت بغداد، و بذلوا السيف فيها سبعة أيام متوالية ثم رفع في اليوم الثامن.
أما الذهبي فيذكر في (العبر في خبر من غبر) أن التتار دخلوا بغداد و بذلوا السيف و استمر القتل و السبي نيفا و ثلاثين يوما. فقل من نجا.
و أما أبو الفداء فيقول في (المختصر من أخبار البشر) انهم قتلوا الخليفة، و لم يقع الإطلاع على كيفية قتله، فقيل خُنق، و قيل وُضِع في عدل و رفسوه حتى مات، و قيل غرق في دجلة، و الله أعلم بحقيقة ذلك. و أن القتل و النهب دام نحو أربعين يوما.
و في قتل المستعصم يذكر أيضا إبن الكتبي في (فوات الوفيات) فيقول: و اختلفوا كيف كان قتله، قيل أن هولاكو لما ملك بغداد أمر بخنقه، و قيل رفس الى أن مات ، و قيل غرق، و قيل لف في بساط و خنق، والله أعلم بحقيقة الحال.
عدد القتلى
يقول الذهبي، في العبر، أن هولاكو أمر بعدِّ القتلى فبلغوا ألف ألف و ثمان مئة ألف و كسر. فعند ذلك نادوا بالأمان.
أما إبن خلدون فيذكر في تاريخه إن الذي أحصي في بغداد من القتلى ألف ألف و ثلاثمائة ألف. و استولوا من قصور الخلافة و ذخائرها على ما لا يحصره العدد و الضبط و ألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة، بزعمهم، لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن. و اعتزم هولاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته.
أما السيوطي فيذكر أن القتال استمر في بغداد نحو أربعين يوماً فبلغ القتلى أكثر من ألف ألف نسمة ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وقتل الخليفة رفساً.
و ذكر العصامي ان التتر قتلوا في ثلاثة أيام ما ينوف على ثلاثمائة ألف وسبعين ألفاً، وسبوا النساء و الأطفال، ونهبوا الخزائن والأموال، وأخذ هولاكو جميع النقود، وأمر بحرق الباقي، ورمى كتب مدارس
بغداد في دجلة، وكانت لكثرتها جسراً يمرون عليها ركبانَاً ومشاة، وتغير لون الماء بحبرها إلى السواد.
و لم يذكر العصامي الوقت الذي بقي هذا "الجسر" على حاله، يمرون عليه الركبان و المشاة، و هل أن هؤلاء الراكبين و المشاة هم ممن تبقى من أهل بغداد، أم هم من المغول؟
و إبن الأثير يذكر أيضا إختلاف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين ، فيقول : قيل ثمانمائة ألف و قيل ألف ألف و ثمانمائة ألف، و قيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس.

التعليقات

  • د.مفدى زهور عديد.مفدى زهور عدي عضو ذهبي
    تم تعديل 2010/05/21
    [
    size="6"][/size]وللموضوع نقاش وأرجو أن تطلعوا على هذا المقال الرائع للأستاذ العلامة محمد سعيد رمضان البوطي الأستاذ المشهور بجامعة دمشق كلية الشريعة.

    بقلم: محمد سعيد رمضان البوطي

    الظالم سوط الله في الأرض
    ينتقم به ثم ينتقم منه



    الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
    أما بعد، فيا عباد الله:
    لعل الأخبار التي تسمعونها أو ترونها مما يتعلق بجرائم الحرب التي تدور رحاها في قطعة هي من أعز بلادنا العربية والإسلامية، لعل في هذه الأخبار التي تسمعونها أو ترونها ما يزجكم في حالة من اليأس، وهذا يتنافى مع سنن الله عز وجل في عباده، ويتنافى أيضاً مع معاملة الله سبحانه وتعالى للجماعة المؤمنة المسلمة، وهي موجودة بحمد الله سبحانه وتعالى قلة أو كثرة فوق هذه الأرض، ما ينبغي لما تسمعون أو ترون أن يزجكم في حالة من اليأس والقنوط، كما قد أتصور، بل أريد في هذا الموقف أن تتبينوا مظاهر لطف الله سبحانه وتعالى، ومظاهر عدله، بل مظاهر إحسانه ومننه لعباده المسلمين.
    إن مما قاله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيما رواه الطبراني والديلمي وغيرهم ((الظالم عدل الله في الأرض- وفي رواية- سوط الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه)).
    هذا الذي يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم ينطبق على الحالة التي نمر بها اليوم، لاشك أنها جريمة ما بعدها جريمة، ولو أن القانون الدولي مطبق لوقفت أمريكا الآن في قفص الاتهام ليحكم عليها بأنها مجرمة حرب، ولكن ينبغي أن نلاحظ الأمر من زاوية الحقائق الإيمانية. هذا الإجرام إنما هو سوط من سياط الله سبحانه وتعالى، شاء الله عز وجل أن ينتقم به، وما معنى أن الله شاء أن ينتقم به؟ أي شاء أن يجعل من هذا السوط إيقاظاً للمسلمين التائهين عن إسلامهم، شاء أن يكون ذلك تأديباً للمسلمين الذين تاهوا عن الشرف الذي توجهم الله سبحانه وتعالى به، ونسوا أو تناسوا الأمانة التي أناطها الله سبحانه وتعالى في أعناقهم وهذا شيء تلاحظونه، ويبدو للعيان أمام كل متأمل، وكل ذي فكر ثاقب، قادةُ المسلمين من عرب وغيرهم أعرضوا عن الأمانة التي حملهم الله عز وجل إياها، وتناسوا الشرف الذي سما بهم الإسلام إليه، وتحولوا إلى أناسي يتحركون في قبور من الذل والمهانة وهم أحياء، لابدَّ من عصا توقظهم، ولابدَّ من سوط رباني ينبههم، هذه السياط اليوم هي في الحقيقة لا تلهب ظهور البرآء في العراق، وإنما هي سياط تنحط على ظهور قادة المسلمين ليستيقظوا وليتنبهوا، وليعودوا إلى التاج الذي شرفهم الله به؛ ولكنهم ألقوه أرضاً، فإن لم يتنبهوا ويستيقظوا فإن في يقظة شعوبهم ما يغني عن يقظتهم، هذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظالم عدل الله - أو سوط الله - في الأرض ينتقم به))، إننا الآن في مرحلة هذا الانتقام، ينتقم الله عز وجل بهذا المجرم القذر ولا ريب، والسوط دائماً لابدَّ أن تكون فيه مقدمات التأديب، ربما أدب الله عز وجل قوماً بجرذان، وقد أدب الله عز وجل فرعون وقومه بما هو أحط من الجرذان {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف: 7/133] هذا شيء داخل في سنن الله سبحانه وتعالى، والقصد من ذلك إيقاظ قادة المسلمين إلى الشرف الذي شرفهم الله عز وجل به، ولكنهم أعرضوا عنه، وعما قريب ستتحقق المرحلة الثانية أيضاً إذ قال: ((ثم ينتقم منه)). ((الظالم عدل الله أو سوط الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه)).
    عندما ينتهي دور هذا السوط؛ لابدَّ لهذا السوط أن يتحطم، وأن يلقى في النار ليحترق، هذه حقيقة ينبغي أن تتبينوها، وهذه الحقيقة تطبق كما نعلم من سنن الله عز وجل في دار الدنيا قبل أن نرحل إلى الله عز وجل، ونقف بين يديه في ساعة الحساب. أجل، عما قريب سينتقم الله سبحانه وتعالى من هذا الظالم، وأي انتقام، ربما تصور البعض أنه يوم بعيد قد يأتي، ولكن بعد قرن من الزمن. لا أيها الإخوة، الأمر أقرب من ذلك بكثير، أرأيتم إلى هؤلاء الجنود التي حشيت أرض عراقنا الإسلامية المؤمنة بهم، إنهم اليوم قد تحولوا إلى أقسام، فأما القسم الكثير منهم فقد أصبحوا نهباً لأمراض نفسية شتى، وأما قسم منهم فقد داخلهم شعور ضرورة اعتناق دين الله سبحانه وتعالى، وهم الآن بين متكتم ومستكتم لهذا الإيمان الذي داخل عقله، وبين معلن، وبين من يحاكم عقله ليتخذ قراره عما قريب، وقسم ثالث ولعله القسم الكبير هم ما بين قتيل وجريح، وإياكم أن تتصوروا من الأخبار التي تتلقونها مقياساً للكم فالأمر أشد وأعتى من ذلك بكثير. أما القسم الآخر، فلعل الله عز وجل قد شاء أن يعودوا غداً إلى بلادهم ليكونوا شهداء على جريمة الحرب هذه، ليكونوا شهداء أن هذه الدولة التي خيلّ إليها أنها ستصبح الحاكم المؤلّه فوق هذه الأرض؛ والتي ستحكم الكون كما تشاء وتريد؛ سيكون هذا القسم الأخير شاهد عدل على أن هذه الدولة انحطت ثم انحطت وأصبحت مجرمة حرب، أجل. هي اليوم تعاني من الحكومية التي لا ريب فيها، لو أن العالم كان قادراً على أن ينفذ قوانينه التي اتخذها والتي تبناها، والتي أصبحت محفوظة ومخبوءة داخل الأدراج - هذه حقيقة لا ريب فيها - هذا الحشو الذي حشيت به أرض العراق مقسوم اليوم إلى هذه الأقسام التي حدثتكم عنها.
    ولكن تعالوا فانظروا إلى العاقبة، العاقبة التي لا تتبينها الأعين والمقاييس المادية المنظورة، ولكن تتبينها البصائر، إنها المقاييس التي تخضع لسنة الله سبحانه وتعالى في عباده، انظروا إلى العاقبة، قارنوا أيها الإخوة بين مدى توجه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى إسلامهم بإخلاص في السنوات التي خلت وتوجههم إلى إسلامهم هذا في هذا العصر، بل في هذا المنعطف، وفي ظل هذه المأساة التي نعاني منها.
    كان المسلمون فيما مضى تتوزعهم - كما يقولون - إيديولوجيات متناقضة متعددة، فمن متجه ذات اليسار، يجعل من اليسار دينه الخفي وإن كان يتظاهر بانتمائه إلى الإسلام، ومن متجه إلى أقصى اليمين يتباهى بتطرفه نحو اليمين، ومن فئة ترفع لواء القوميات، ولعلكم تذكرون يوم كانت القوميات تغرس في نفوس كثير من الناس بدلاً من العقائد الإيمانية بالله سبحانه وتعالى، كان المسلمون في بلادهم الإسلامية تتوزعهم هذه السبل، والقلة اليسيرة كانت صابرة مستمرة على النهج الأمثل وعلى العهد. أما اليوم فقد ذابت تلك التوجهات الكثيرة التي كانت تسري بأصحابها ذات اليسار، السبل المتعرجة، إلى اليسار أغلقت، أولئك الذين كانوا يتجهون إلى سبيل مناقض إلى اليمين المتطرف ذلك السبيل الآخر أغلق، الهتافات التي كانت تهتاج في الآذان بل في القلوب والنفوس والتي ترفع شعارات القوميات خمدت ثم همدت ثم ذابت وقضي عليها، ما الذي حل محل ذلك كله؟ الذي حل محل ذلك كله إنما هو ارتفاع لواء الإسلام، إنما هو التوجه إلى سبيل الله عز وجل الواحد الأحد، انظروا إلى تلك المنعرجات التي كانت تتوزع الأمة ذات اليمين وذات الشمال انتهت، وتأملوا تجدوا أنفسكم أمام ألسنٌ تهتف بتلبية الله عز وجل إذ يخاطب عباده قائلاً: {وَأَنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 6/153] فيما مضى كان الضجيج يشغلنا عن الإصغاء إلى هذا الكلام، أما اليوم في ظل قارعة الحروب، في ظل هذه المأساة، فلقد أصبح الجميع يهتفون - إن لم يكن بألسنتهم فبما شعرهم - يقولون لمولاهم وخالقهم: لبيك اللهم لبيك، ها نحن نتجه إلى صراطك، وها نحن عدنا من المنعرجات التي تهنا فيها، بفضل ماذا؟ بفضل هذه المأساة، بفضل هذه الحالة التي هي في ظاهرها شر وبلاء، ولكنها في الباطن نعمة من النعم الباطنة، وجلَّ الإله القائل: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً} [لقمان: 31/20].
    هذه حقيقة ينبغي أن نعلمها، ولعل هذا هو المعنى المراد بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه النسائي وغيره: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)). إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وليس معنى ذلك أن الرجل الفاجر يجعل الله منه بوقاً يدعو إلى الإسلام، لابل إن هذا الرجل الفاجر يكيد للإسلام، ويضع الخطط التي يعتصر عقله لتنفيذها من أجل القضاء على الإسلام، ولكن الله يخيب آماله، ويجعل خططه التي يستهدف من ورائها القضاء على الإسلام يجعل منها سبباً لعود حميد إلى دين الله سبحانه وتعالى. أجل، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) دعكم من القادة، دعكم من العملاء، لكن انظروا إلى الشعوب، إلى شعوب العالم العربي والإسلامي، وأنا لابدَّ أن أضع كلمة العربي إلى جانب الإسلامي، لأن هذا العالم العربي كان بالأمس يتعامل مع القوميات، كان يتعامل مع اليسار، كان يتعامل مع اليمين، لكنه اليوم طوى كل تلك الفقاقيع التي كان يتباهى بها، شعوب العالم العربي ترفع لواء الإسلام، شعوب العالم العربي اليوم لا تجد أمامها إلا نداءً واحداً وشعاراً واحداً ألا وهو شعار {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أما القادة فأمرهم عائد إلى الله سبحانه وتعالى، القادة يأتون ويذهبون، وقبورهم تنتظرهم، والعبرة ماثلة أمام البصائر لمن أراد أن يتبصر بها، دعوكم من هؤلاء، فإنهم لن يكونوا عقبة في الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، أقول هذا لكي تجعلوا منه دواءً ضد اليأس الذي يمكن أن يتسرب إلى أفئدتكم، نعم هنالك دمار، نعم هنالك رحى تدور بالقتل على البرآء، لكن اذكروا قول الله القائل: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذَىً} الأذى وارد، لكنّ الضرر الأبلغ هو أن يستطيع المجرم أن يتملخ الإسلام من أرض الإسلام، لن يستطيع هذا المجرم إلى ذلك سبيلاً بشكل من الأشكال، أما الأذى فهذا شيء ابتلى الله عز وجل به عباده الصالحين، بل ابتلى الله عز وجل به أنبيائه قبل أن يبتلي به عباده الصالحين.
    أيها الإخوة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظنا إلى العبرة التي ينبغي أن يقطفها من هذه المأساة التي تمر بها أمتنا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظ المسلمين قادة وشعوباً لعود حميد إلى دينهم، وهذا أمر سيتحقق بإذن الله وعونه.
    آمين آمين آمين...

    وأنا أقول:

    صدق أبو الطيب المتنبي حين قال:

    وما من يد إلا يد الله فوقها=وما ظالم إلا سيـُبـْلَى بأظلم
  • dr.Hazemdr.Hazem مدير عام
    تم تعديل 2010/05/21
    اللهم آمين ...لا أستطيع إلا أن أقول الله يجزيك كل الخير دكتور على تنوير بصيرتنا و على نقل الموضوع..فعلاً نحن بحاجة لهذا السيف حتى تستفيق في أعماقنا لا إله إلا الله ...

    بارك الله فيك دكتور مفدى و جزالك الله عنا كل الخير...
  • TAMMAMTAMMAM عضو ذهبي
    تم تعديل 2010/05/22
    الله يجمعنا على كلماته يارب العالمين ............ اللهم رد إلينا سيف الامام علي ورد إلينا صلاح الدين وخالد بن الوليد وأبطال العرب يارب العالمين
  • د.مفدى زهور عديد.مفدى زهور عدي عضو ذهبي
    تم تعديل 2010/05/22
    الأخوة الغاليين حازم وتمام..سعدت لمروركما ولتشجيعكما....ودمتما بألف خير....